وأوضح أيضا أن الاستثناء من القهر والظلم يرتبط فقط بخدمة أصحاب الياقات البيضاء في مصر، فأرض عبد الموجود لم تُنتَزع منه لأنه قدم ابنه -ابن الشعب- فداء لتوفيق ابن السلطة، فالسلطة هي الحاكمة في مصر وهي التي توهب الحياة والموت لأبناء الشعب وهي التي تمنح وتمنع.

إن كل ما قدمه صلاح أبو سيف وخاصة في فيلمي بداية ونهاية والزوجة الثانية استطاع أن يمهد بهم الأرض لعمله الختامي المواطن مصري الذي كان قمة الإيضاح لقهر المواطن المصري، وكانت أكبر لمحات القهر في المشهد الختامي عندما عجز الأب أن يعلن أن أبناء الفقراء من هذا الوطن هم من يضحون في سبيله أو على الأقل يحتضن جثمان ابنه الشهيد، ولكن للأسف دائما ما تكون التضحية زائفة وتتحول لأن تكون لصالح أبناء السلطة. فمشهد الجثمان الممدد واقتراب الأب المرتعش من ابنه ودموع القهر الممزوجة بالفقر وقلة الحيلة كانت تستحق أن تكون المشهد الختامي لصلاح أبو سيف وهو يروي حكاية مصر عبر كل العصور.
يستطيعون أن يجعلوه يؤمن يقينا أن اسم ولده لن يزال من قائمة الشهداء ليوضع اسم توفيق عبد الرازق بدلا منه. عندما يستطيعون فعل ذلك فسيجدون تلك الملايين عادت مرة أخرى تضحي بنفسها. |
إن هذه الصورة المؤلمة ينبغي على من يحاول تحرير مصر أن يدركها، فبطل حكاية المواطن مصري الذي مات بدلا من ابن السلطة وأبوه المصري المقهور الذي تعاطف معه الجميع في بكائه على ابنه الشهيد وعجزنا أنلومه أم نعذره في ضعفه؛ هذان الرجلان يمثلان قطاعا كاسحا من شعب مصر الذي يلام الآن على ضعفه في مواجهة السلطة، وأنا لا أعرف كيف يمكن لومه وهو محاصر بالجميع؛ فالكل يسحقه والكل يحطمه ويطلب منه الجميع أن يخسر الورقة الوحيدة في يده وهي حياته، ويتناسون أن خبرته السابقة تنبئه أن حتى حياته عندما يضحي بها تكون التضحية لأصحاب الياقات البيضاء.
تلك الخبرات المتراكمة لهذا القطاع العريض تنبئه أن كل هؤلاء الذين يدفعونه إلى المجهول يستخدمونه لتحقيق مصالح ليس له فيها ناقة ولا جمل، وكان الاستثناء الوحيد هو ما حدث يوم 14 أغسطس وما تلاه وسبقه من أحداث، فقد وجد بارقة أمل أن حياته التي يضحي بها ربما تكون هذه المره لسبب مختلف لصالح شيء ما صالح، وما يؤكد ذلك هو الاندفاع غير المسبوق خاصة يوم 16 أغسطس في كل مصر سعيا وراء الحلم الذي يطارده كل هذا الشعب البائس منذ مئات السنين.
الواجب على كل من يعمل من أجل تحرير مصر أن يصنع الحلم لكل هؤلاء البؤساء، أن يزرع فيهم الثقة ويؤكد لهم أن تضحياتهم ستكون لهم ولن تكون مرة أخرى لصالح توفيق عبد الرازق الشرشابي، أن يجعلهم يؤمنون يقينا أن عبد الموجود المصري سيستطيع أن يحتضن جثة ابنه الشهيد دون خوف من كل السلطات التي كانت تحيط به تنتظر تحطيمه إذا تجاوز حده. يستطيعون أن يجعلوه يؤمن يقينا أن اسم ولده لن يزال من قائمة الشهداء ليوضع اسم توفيق عبد الرازق بدلا منه. عندما يستطيعون فعل ذلك فسيجدون تلك الملايين عادت مرة أخرى تضحي بنفسها في سبيل مستقبل أفضل لهم ولأولادهم. أما نغمة الشعب الخانع وغير القابل للثورة فهو تصدير أزمة مصر الكبرى لأضعف حلقاتها وأكثر الأطراف تضررا منها، تماما كما حاسب النظام محصل القطار على حادثة احتراق قطار الصعيد.
سيصرخ عبد الموجود المصري باسم ابنه ويعلن عن أن هؤلاء الفقراء هم أصحاب كل شيء جميل وحقيقي في تاريخ مصر عندما يثق فيمن يتحدثون باسمه، وعندما يتوقف كل عبد الرازق الشرشابي عن الدعوة للثورة. فالشرشابي نموذجا واقعا ودائما في مصر وليس شخصا في خيال الكاتب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.