شعار قسم مدونات

قالوا لنا عن الجامعة

blogs الجامعة

في طفولتنا، كنا نتلهف كثيراً لنتعرف على ما يقال له: "الجامعة"، ذلك المكان الجميل، الواسع كالسماء، ذلك المكان الذي يضم بين جدرانه جميع الجنسيات والأعراق والأديان، تحت راية واحدة، هي راية العِلم والفِكر. ولا شكّ أننا جميعنا في طفولتنا كنا نسأل أنفسنا السؤال ذاته: "متى أكبر وأدخل الجامعة؟"

كانت الجامعة الحلم الأكبر، كانت تجمع الراحة والابتسامة والعلم والثقافة في مكان واحد، أو هكذا كانوا يقولون!  سمعت كثيراً، أن في الجامعة يمكن للطالب أن يدرس في شتى أنواع العلوم، ويمكنه أيضاً أن يدرس ما يحب من المواد، كم كانت الجامعة حلماً جميلاً ننتظره بلهفة وشوق، ففي الجامعة أنت لست مجبراً لتدرس مواداً لا ترغبها، كالجغرافيا واللغة الإنجليزية والتاريخ مثلاً! ستدرس فقط ما تحب.

كانوا يقولون أيضاً أن الجامعة هي ملتقى المفكرين والمثقفين والنخب من أبناء المجتمع، كانوا يقولون أنها صعبة المنال، ولا يمكن لأي كان أن يدخلها، وقيل أيضاً أنني سأرى فيها عالماً مختلفاً تماماً عن ذلك العالم الذي أقابله في الحديقة والبقالة والشارع، وكان فعلاً مختلفاً!

علمت أن التعليم أصبح ربحياً، الغاية الوحيدة خلفه هي جني المال، وكأنما الجامعة تحولت من صرح تعليمي إلى مؤسسة تجارية هدفها الأول الربح المادي وتفادي الخسارة

كان مختلفاً عن كل ما ذُكر، لا أعلم إن كانوا يخدعوننا بالكلام المنمق عن الجامعة والشخصيات الجامعية، كي لا يخلقون في أنفسنا نفوراً منها، أم أنهم كانوا يتحدثون عن واقع قديم لم يعد موجوداً الآن بعد أن تغيرت الأجيال، وتغيرت الأنفس، حتى ذلك المكان المقدّس، تغير!

حين دخلت الجامعة، اكتشفت أنها أقل مما كنت أتصور بكثير، أقل من تخيلاتي جميعها، كأنها لم تكن تستحق كل الكلام الرائع الذي قيل فيها! لم تكن مكاناً للمثقفين الواعين فقط! الجامعة يا سادة، أصبحت مكاناً يكتظ بالبشر من شتى الأشكال والألوان، كسوق قديم في منتصف البلد! يدخله أياً كان، ويخرج منه متى شاء، ويفسد فيه كيفما شاء دون حساب أو عقاب!

علمت أن الطالب الجامعي مجبر على دراسة مواد لا علاقة لها بتخصصه، يدفع رسومها ويدرسها على الرغم من أنها لن تفيده في تخصصه أبداً! فتجد طالب العلوم الحياتية مجبراً على دراسة مادة الرياضيات والفيزياء والحاسوب! وطالب الفيزياء مجبراً على دراسة مادة الأحياء والجيولوجيا، وإلا، فلن يتخرج ولو أنهى مواد تخصصه كاملة!

علمت أن هناك ما يمكن أن يجعل طالباً ينجح في مساق معين دون غيره، بوصفة أقوى من الدراسة، هي وصفة الواسطة والمحسوبية، ستتذوق الظلم يوماً إن لم تكن مدعوماً بواسطة قوية! علمت أن الطالب عليه أن يتقبل إهانة الدكتور والمدرس حتى لو لم يكن على خطأ! لأنه لو حاول أن يقول الحق، أو يدافع عن نفسه، فإنه سيُفصل من الجامعة فوراً وبلا رحمة!

علمت أن الطلبة الجامعيين ما عادوا اليوم يستحقون لقب "جامعي"، فهم لا يأتون للجامعة إلا للتسلية وإضاعة الوقت مع أصدقائهم تحت الأشجار وبين الكافتيريات!

لم تكن الجامعة كأحلامي الوردية الطفولية، لم تكن ككل الكلام الذي قيل، تغيرت كثيراً عما تعرفون، هي ليست مذنبة، إنما نحن المذنبون

الطالب الجامعي اليوم، لا يساهم في المحافظة على جامعته ولا بمقدار شعرة! حتى نظافة الجامعة أصبحت تؤذي الكثير منهم، فتجده لا زال يرمي أعقاب سجائره في الأرض، ويترك مخلفات طعامه وشرابه في الممرات والقاعات وتحت المقاعد، ويتحدث بلسان زفِر ولهجة لا يتحدث بمثلها إلا الجَهَلة والمتخلّفين .

علمت أن التعليم أصبح ربحياً، الغاية الوحيدة خلفه هي جني المال، وكأنما الجامعة تحولت من صرح تعليمي إلى مؤسسة تجارية هدفها الأول الربح المادي وتفادي الخسارة، دون أن تقدم مقابل كل تلك الأموال أي خدمات مناسبة للطلبة! وفي كل عام ترفع أسعار الرسوم كما يرفع (العم الخُضري) سعر البطاطا والبندورة والجزر! ارتفعت قيمة التعليم المادية، لكن قيمته المعنوية في كل عام تصبح أبخس مما كانت عليه في الماضي.

كل ذلك نراه كل يوم في جامعاتنا، والكثير منا يتساءلون يومياً: "هل أنتمي إلى هنا؟!" يؤسفني اليوم، أننا كطلبة جامعيين، لا نختلف كثيراً عن أولئك الذين لم يعرفوا شكل الجامعة يوماً! يؤسفني أن يضمني والكثير من الجهلة مكانٌ واحد، مكان كُتب على بواباته "ادفع لتدخُل"، تلك نفسها التي كُتِب عليها ذات يوم: "ارتقِ لتدخل ". لم تكن الجامعة كأحلامي الوردية الطفولية، لم تكن ككل الكلام الذي قيل، تغيرت كثيراً عما تعرفون، هي ليست مذنبة، إنما نحن المذنبون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.