تتعرض الكثير من الحركات الإسلامية إلى انتقادات لاذعة، ولكن الغريب ليس في انتقادات خصومها التقليديين (كالعلمانيين والليبراليين وغيرهم..) أو حتى التيارات الإسلامية المتصادمة فيما بينها، إنما تتجلى الغرابة في انتقادات أبناء التنظيم أنفسهم لهذا التنظيم ما أدى إلى حالة اللااستقرار في هذه التنظيمات خصوصا إن كانت هذه الانتقادات لا تصب في خانة السياسات العامة (كتقديم فلان على علان في الترشيحات) وإنما في جوهر التنظيم نفسه (هل العمل التنظيمي مجد أم لا؟).
وفي هذا المقال نتناول أحد أنواع هذه الانتقادات وهو عبارة عن سؤال بسيط: (لماذا يمتلك التنظيم الواحد عدة فروع ومؤسسات تابعة له وهو لم يكمل ما بدأه من العمل؟) وهو سؤال مشروع بالنسبة لشخص مناصر لا يعرف أهداف العمل التنظيمي.
بداية لا يمكن الدخول في هذا الموضوع دون التعريج على مفهوم التضخم المؤسساتي، فالتضخم في علم الاقتصاد هو زيادة في حجم النقود في السوق والذي ينتج عنه فقدان للقيمة الحقيقيّة للعملات ويقابله ارتفاع في سعر السلع والخدمات، وبإسقاط سريع على الساحة الدعوية يمكننا أن نستشعر هذه الحالة وأن نخلص إلى ما يعرف بالتضخم المؤسساتي في التنظيمات الإسلامية وهو كثرة المؤسسات الفرعية مقابل قلة في الأفراد ما ينتج عنه فقدان للقيمة الحقيقية لهذا التنظيم وكذلك لفروعه، يقابله نفور مطرد للأفراد محاولين النجاة بأنفسهم من خلال خلق تنظيمات وفروع جديدة وسط اتهامات متبادلة في مشهد سوداوي قاتم لا قرار له .
فأين الخلل؟
الخلل ببساطة هو خلل في المفاهيم ونقص في المعطيات، بل وهو نقص تواصل بين الرأس والقاعدة، إن أي تنظيم يحاول أن يتمدد وفي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كان هذا التمدد منحصرا في زيادة الأتباع وقياس ذلك بعدد الحاضرين في المساجد لحضور المحاضرات وتصنيفهم كأتباع أو بعدد المصوتين في الانتخابات بالنسبة للتنظيمات الإسلامية ولكن تطور الأحداث ودخول علوم حديثة كعلم الإحصاء ومقاييس عالمية جديدة مثل مؤشرات التنمية البشرية ومؤسسات التصنيف جعل هذه التنظيمات تقوم بمحاولة من التجديد لمواكبة هذه المعايير من خلال تفرعات عديدة وهيكلة مؤسساتية تضفي على التنظيم طابعا عصريا، كما أن مسألة خصوصية الأقطار فرضت عليها ذلك، ففي بعض الدول يمكن ممارسة الدعوة من خلال حزب سياسي تبعا لقوانين الدولة وطبيعة تفكير أهلها، وفي دول أخرى وجب عليك الاستعانة بفروع أخرى كغطاء حتى يتقبلها الناس .
كما أن هذه الفروع محددة التخصصات إذ تسمح لكل شخص بممارسة مواهبه وملكاته الفكرية حتى لا نقع في دائرة حصر الإبداع واحتكار العمل على أصحاب تخصص معين (العلوم الشرعية مثلا)، والكثير ممن يطرحون السؤال المذكور أعلاه هم شباب عرفوا التنظيم من خلال فروعه ومؤسساته التابعة له لا من خلال التنظيم الأم كما يقال، وبهذا سيكون هذا الشاب مجبرا على ممارسة السياسة وإتقانها أولا بعدها يمكنه الالتحاق بالفروع إذا تابعنا التسلسل الزمني لإنشاء التنظيم على اعتباره سياسية النشأة في إطار ما يعرف ب (الإسلام السياسي) .
إن التضخم المؤسساتي ينجر عنه ما يعرف بالانكماش التنظيمي وكسابقه لابد من تعريف يسهل المصطلح فالانكماش في علم الاقتصاد هو انخفاض متواصل في أسعار السلع والخدمات وهو عكس التضخم الاقتصادي، وبإسقاط هذا التعريف على الواقع فإنه سينتج لنا مصطلح الانكماش التنظيمي وهو انخفاض متواصل في أعداد الأفراد والأتباع وهو عكس التضخم المؤسساتي.
إن قلة الأفراد وعزوفهم يؤدي إلى حالة من الفراغ باعتبارهم أنهم أهم مورد ألا وهو المورد البشري. وهذا العزوف ليس عزوفا فكريا أو انقلابا في المفاهيم عندهم وإنما هو عزوف عن العمل أي تحول الشخص إلى مناصر فتضيق دائرة العاملين وتتسع دائرة المناصرين المنتقدين بطبيعة الحال والساخطين على فشل تنظيمهم دون أن يدركوا أن انسحابهم هو أحد اسباب الفشل، ولا تتوقف الخطورة عند فشل التنظيم وانقراضه باعتباره مجرد وسيلة لا غاية في حد ذاتها، فالخطر الأكبر هو تشويه التنظيم وربما تحوله إلى (صف لاعقي البيادة) من خلال اندساس الطفيليين الذين لا يحملون فكر التنظيم نتيجة الفراغ أو من خلال ضربة استخباراتية مقصودة في محاولة تفريغ التنظيم من محتواه من خلال نشر حالة من اليأس تكون شعبية وعامة.
ولكن تركز على تحويل الساحة الدعوية إلى ميدان بائس غير مثمر، فينفض العاملون المخلصون ويبقى بعض الأتباع الضعاف وهم خيرون فينقض عليهم ذئاب المطامع فيتسلقون في التنظيم وهذه الأسطوانة تتجدد في كل قطر من الأقطار، وبالتالي تفقد التنظيمات أسباب وجودها ويصبح المخلصون الذين كانوا عاملين في حالة بطالة دعوية ويبدؤون رحلة البحث عن الذات من جديد وتكوين تنظيمات فطرية (من نبات الفطر) على أنقاض ما هدموه بأيديهم دون دراية منهم.
فنعود إلى ظاهرة أكثر خطورة ألا وهو تضخم تنظيمي، فتنشأ تنظيمات بأيديولوجيات متباينة ومتقاربة وفي نفس الوقت متناحرة، فكلهم يدعي أنه الأقرب إلى التنظيم المنهار وتبدأ حالة الشد والجذب للأفراد ولو واصلت حديثي لما انتهى السيناريو المتكرر فهي حلقة مفرغة وعلاقة وطيدة بين التضخم المؤسساتي والانكماش التنظيمي من خلال ولادة جنين مشوه ألا وهو التضخم التنظيمي كمحاولة تصحيحية من الجميع، ولا حل لهذا إلا بالتمسك بالتنظيم الأم وترميمه بالمؤسسات الفرعية التي يمكنها أن ترضي الجميع وتستوعب ميولهم، وكذلك على الأفراد أن يثقوا بهذه الاستراتيجية (تنويع المؤسسات) ولا ينفروا منها أو يتوجسوا خوفا. وإنما عليهم احتضان هذه المشاريع والابتعاد عن الوقوع في دوامة التضخم المؤسساتي.
وإن عجزت عن فهم كل ما سبق فخذها ببساطة ما ضرك من مبادرات يطلقها إخوانك كونك داعيا إلى إعمال الناس وتنبيههم، إذاً اقبل الأمر من قيادتك وانطلق في مشاريعهم، إن نجحت فقد شاركت فيها وكنت أحد المهندسين وإن فشلت فقد اجتهدت والمهم أن هناك حركية في الساحة الدعوية ستستفيد منها الأجيال اللاحقة كتجربة. وكذلك على القيادة أن تكون واضحة في خطابها وفي مشاريعها وأن تحسب لكل مشروع رجاله وعدته وعتاده، وأن تتجنب تكرار نفس الوجوه.
في الأخير وجب على أبناء كل تنظيم أن يصارحوا قيادتهم ويحتكوا بها، فصفة مناصر لا تعني (أنني معكم وفقط) بل تعني أن تتقرب، وأن تدرك أن هذه الصفة هي مرحلة انتقالية لا يجب الوقوف عندها، بل هي مرحلة تعرف واكتشاف ومن ثم اختيار الطريق حسب الميولات وحسب الفراغات فلا بد من تضحيات أحيانا، لأن للمرحلة ضرورتها كذلك. وإن لمست جانب نقص فما عليك إلا خلق مشروع يناسب بيئتك تطلع عليه قيادتك وثم تمدك بالمدد والعون بأفضل الموجود.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.