منذ أن بدأت قصة الإنسانية على الأرض، والعقل البشري يخوض غِمار تساؤلاته عن أصل كيانه وسُبل استمراره وطرائق عيشه وكفاحه للعيش وتطوير نمط وجوده على المعمورة. لقد فرضت حاجة العيش والتعايش على الإنسان وبقاء جنسه البشري وتحقيق متطلباته بما تقتضيه حاجة الوُجودِ ولعِبِ دورِ الخليفة في الأرض أن يبحث ويفكر ويتفكَّر ويتساءل فكانت حركة العقل للإنسان بمثابة الأوكسيجين المعنوي.
بحث الإنسان البِدائي سُبل تماشيه وتطبُّعه مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي والمعماري في سبيل استمراره واستكماله لمشروع الإنسان على الأرض. ثم توالت عليه الحضارات بدءًا بحضارة بلاد الرافدين إلى الحضارة المصرية ثم الحضارة الفارسية فالحضارة الرومانية واليونانية ثم الإسلامية والحضارة الغربية اليوم. من حضارةٍ إلى مُنافسةٍ لها يُسلَّمُ مشعل البحث بغرض الاستكمال والبناء في سبيل المضي بالبشرية إلى الأفضل والأحسن والأنسب. فاتفقت كل الحضارات على أن الآتية لا تقوم إلا على أساسٍ من السابقة. كما اجتمعت كل الحضارات على أن أساس قيامها وبنائها هو الإنسان الذي بحثها فأوجدها فكان هو "الباحث".
أبدعت الحضارة الإسلامية في بحث علم الكيمياء وتطويره بأسماء شهد لها أهل زمانها وأهل زماننا بالمساهمة الكبيرة في هذا العلم من أبرزهم جابر ابن حيان. |
عندما حادت الأمم السابقة عن الجادة، أرسل الله تعالى من الأنبياء من يعيدها عن حيادها فكان أن نقض الأنبياء الباطل بالأدلة العقلية من تساؤلات تستوجب استعمال العقل والبحث في ملكوت الخالق عمَّا يقود إلى الخالق. ولنا في مناظرة نبي الله إبراهيم عليه السلام للنمرود وخاتم الأنبياء والمرسلين لقومه ودعوتهم إلى استعمال العقل في البحث عن الحقيقة والتبرؤ من التقليد لما جاء به وكان عليه الأجداد المثل الأعلى. لقد ظهرت في أنبياء الله الشخصية القدوة مع أقوامهم في استعمال العقل والبحث عن الله. فقد تساءل إبراهيم عليه السلام عن الكون وخالقه وخاطب الكواكب والنجوم والشمس والقمر عمّا إذا كانت هي الخالق، ليقوده البحث بتوفيقٍ من الله إلى الحقيقة الكبرى فنادى في وجه الأكوان: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ". كذلك خاتم الأنبياء والمرسلين عندما هجر قومه وما يعبدون من أصنام لا تنفع ولا تضر إلى غار حراء أين تأمَّل في ملكوت الله وأيقن أن لا بدَّ للكون من رب خالق مدبر تتجاوز قدرته قدرة كل مخلوق. وفي كلام الله تعالى الكثير من الآيات التي تجعل من الإنسان باحثا عن الله في ذاته وفي الأكوان من حوله تدعو إلى البحث والتأمل واستعمال العقل في فهم سُبل الوصول إلى الله.
وباعتبار التَّخصص، شهد علم الكيمياء تطورا كبيرا منذ أن وُلدت البشرية إلى أين سيأخذها الطموح الإنساني في البحث والتطوير. فقد ظهر علم الكيمياء مع الإنسان البدائي عندما تفاعل مع الموجودات وحاول ترويض ما حوله من معطيات بيئيَّة في سبيل عيشه. فاكتشف النَّار وبحث دورها في الحياة بما لها وما عليها بعقلية التطوير. كما بحث الماء والخشب والأعشاب والمعادن من حديد وذهب وفضة وغيرها ليتطور الأمر إلى الاستطباب وظهور علم الطب تحت مفهوم الكيمياء. مضى الإنسان في بحث هذا العلم وتطويره إلى أن وصل إلى مستوى ربطه بالكون ومجرَّاته في بحثه عن سرِّ الخليقة.
ثم يأتي من بعده العالم الألماني إرفين شرودنجر (Erwin Schrödinger) و فيرنر كارل هايزنبيرغ (Werner Karl Heisenberg) وغيرهم ممن نقضوا ما بحث بور بنموذجٍ أثبت أن الإلكترون لا يدور حول النواة في مدار محدد إنما هي احتمالات وجوده حولها ليفتح الباب على الكيمياء الكمية ويتوسع علم الكيمياء وتزيد تخصصاته إلى طبية ونووية وصيدلانية ونظرية وفيزيائية وبيئيَّة وغيرها من التخصصات. كلُّ هذا وما زال الإنسان الباحث يطمح إلى تطوير علم الكيمياء واكتشاف ما خفي عن العقل البشري. لكن وعندما حاد الباحث عن الجادة والفطرة السليمة القويمة راح يستعمل عقله في إرضاء نزواته وشهواته فكان أن اكتشف القنبلة النووية والأسلحة الكيماوية وما سبَّب الاحتباس الحراري وغيرها من الاكتشافات التي تشكل خطرا كبيرا يهدد البشرية، فراحت الإنسانية جميعا تدفع ثمن خطأ ثلة منها.
إن الباحث من استغلَّ العقل فحرَّكه ليستفهم ويتفاعل مع الحياة حوله وليس من وفَّر عليه جهد التفكير وما استعمله. ولا يقتصر الانتساب للبحث أو التسمي به على الباحث الأكاديمي فحسب، إنما يتعدى ذلك إلى الإنسان العام باعتباره يشترك في ملكية العقل وقدرته على استعماله. وخلاصة القول وختامه أنَّ منا من خُلق ليَفترس ومنا من خُلق ليَأكل ومنا من خُلق ليَنكح ومنا من خُلق ليَبحث ويفكر فاختر أيَّ المهن شئت.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.