أتذكر ذلك كله وأنا أكتب عن مفصل مهم من حياتي، يوم اتخذت قراراً بمغادرة بلد احتضنني لثلاثة عقود تقريباً، فدرست فيه وبدأت منه مهنتي الصحافية، واليوم سأغادره إلى الدوحة حيث مركز الجزيرة.. قرارٌ صعب للغاية.. صعب مهنياً في أن تغادر مكتباً اعتدت على العمل فيه واعتدت على بلده وعلى مصادر أخباره وعلى كل شيء، فغدا العمل فيه معروفاً لديك من صياح الديك إلى صياحه.. وتغادر إلى بيئة جديدة، هذا فضلاً عن مشاركة كل أفراد العائلة في القرار.. فالعائلة حين تكبر لا يكون لصاحبها في اتخاذ القرار إلاً النسبة الضئيلة مقارنة بنسب الزوجة والأولاد.

كان قراراً صعباً للغاية فهو أشبه ما يكون بقلع شجرة مهنية وشخصية وعائلية عمرها ثلاثة عقود ومحاولة استنباتها في منطقة بعيدة وجديدة عليك، ولكن ما عليك إلا أن تتخذ القرار.. فهذه الحياة جُبلت على التغيير والتبدل وليس على الاستقرار والثبات، وإلا لكانت الحياة أشبه ما تكون بالمقابر أكثر الأماكن استقراراً وثباتاً، اتخذته واتجهت إلى الدوحة تاركاً خلفي تاريخاً مهنياً أفتخر فيه؛ فمن توفيق الله تبارك وتعالى أن تكون في المكان والزمان الصحيحين، وهو ما توفر لي إذ كنت شاهداً على أحداث هزت وشكلت العالم كله منذ الغزو السوفياتي لأفغانستان إلى التفجيرات النووية الهندية ـ الباكستانية، ثم إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول، وبينهما انقلابات عسكرية وكوارث طبيعية وغيرها كثير.
بدأت أتلمس حياتي المهنية في الدوحة، فحين فكرت بالعمل في مركز الجزيرة للدراسات استغرب أحد أصدقائي قائلاً لي إن مراكز الدراسات ليست لك كصحافي، فهذه المراكز ربما تلجأ للعمل فيها حين تتقاعد من عملك الصحافي، أما الآن فلا يزال أمامك فسحة لتقديم الكثير للقناة، فاتخذت قراراً بالانضمام إلى قسم البرامج بدعم من مدير القناة الصديق الصدوق ياسر أبو هلالة، وكذلك من قبل مدير البرامج الأخ والزميل والمدير إبراهيم حمدان.
دوامي في البرامج خلال الأيام الأولى كان كمن يأتي إلى مؤسسة جديدة وليس موظفاً فيها منذ سنوات، كما هو حالي، ففرق كبير أن تكون مراسلاً تأتي إلى القناة كل شهر أو شهرين أو سنة مرة واحدة، وبينك اليوم وأنت جزء من الدوام الرسمي للمؤسسة، لكن تغلبت على كل الصعاب، فكان مدير البرامج خير أخ وزميل، وكان جو الجزيرة في البرامج خير أنيس، عوضوني عن كثير مما افتقدته في باكستان ومكتبها العامر، وما هي إلا أسابيع حتى تم تكليفي بالإشراف على برنامج "للقصة بقية" مع زميلي وصديقي ماهر الملاخ، وفريق عمل متألق مكون من المذيعة الرائعة الأخت العزيزة فيروز زياني، ومعها المخرج المتميز وائل الزعبي، ومنتج الغاليري عبد الرحمن الشريف، والأخ ناسك لحاج، والزميل أحمد طرفايا عن التواصل الاجتماعي.
لا بد من الإشارة إلى أن برنامج للقصة بقية فريد من نوعه في عالم التلفزيون العربي، إذ إنه يضم فيلماً وحواراً عن الفيلم.. تحديات أسبوعية بل يومية أمامنا في اختيار فيلم يبحث في قضية إشكالية وترتيب ضيوف ومفاجآت من هنا وهناك، ولكن هذه هي الجزيرة، للتحدي عنوان، وبدعم الإدارة كان لهذا البرنامج تميزه، واليوم إن سئلت فيما إذا كانت شجرتي التي اقتلعتها من باكستان والتي عمرها ثلاثة عقود قد نجحت بالاستنبات في قطر، فأقول لكم انظروا إلى برنامج للقصة بقية.. ولا نامت أعين المترددين والخائفين من المغامرات.