الفرضية الثانية: الأخلاق لا توجد كحقيقة مستقلة عن الإنسان، وهي أمر نسبي، والقانون الأخلاقي هو قانون اعتباطي ولا يشبه "قوانين الطبيعة" أو ما يُفترض أنه قوانين الطبيعة. أي أن القانون الأخلاقي لا يملك أساسا أنطولوجيا خارج الإنسان، وليس ذلك فحسب وإنما هو أيضا بلا أساس داخل الإنسان نفسه. الأخلاق شيء لا يتأسس على مستوى الإنسان كفرد، وإنما على مستوى المجتمع، أي هي شيء اجتماعي في أصله.
الفرضية الثالثة: الأخلاق توجد كحقيقة مستقلة عن الإنسان ولكنها توجد في الإنسان نفسه، أي أن هناك ما يُمكن تسميته حقيقة موضوعية محايثة للإنسان. إنها ليست شيئاً اعتباطيا، وهي ناتجة عن ضرورة، ولكنها ضرورة داخلية في الطبيعة الإنسانية، وليست ضرورة خارجية مفروضة على الإنسان.. شيءٌ يشبه قوانين الطبيعة في الإنسان.
سأبدأ بمناقشة الفرضية الأولى، على أن أواصل النقاش في أجزاء لاحقة:
الفرضية الأولى قد تأتي في إطار رؤية ليس فقط للأخلاق وإنما للحقيقة كشيء مفارق للإنسان. وإذا كُنا نستطيع أن نفكِّر في الحقيقة معرفيا كشيء مستقل عن الإنسان، باعتبار أننا يمكن على الأقل أن نجادل بأن الوجود يُمكن أن يُوجد بمعزل عن الإنسان، وأن هناك حقيقة لهذا الوجود بغض النظر عن قدرة الإنسان على اكتشافها، بل بغض النظر عن وجود الإنسان نفسه. فإن هناك صعوبة، إن لم نقل استحالة، في التفكير في الأخلاق بنفس هذه الطريقة التي قد نفكِّر بها في الحقيقة، أي كشيء مفارق للإنسان.

مثلاً يمكن أن نجادل في أن الكون موجود سواء ظهر الإنسان على كوكب الأرض أو لم يظهر، وبالتالي فإن حقيقة الكون لا تتوقف على الطريقة التي سيفهمه بها الإنسان لاحقا. يُمكن على الأقل أن نجادل في ذلك، مع الأخذ في الاعتبار الآراء التي تقول بأن ما نصفه بأنه حقيقة الكون لا يمكنه أن يوجد بمعزل عن الإنسان، لأن ما نعرفه عن الكون يعتمد على تكويننا كبشر، مثلاً فكرة الزمكان قد لا يكون لها وجود لولا وجود الإنسان، وفكرة الحقيقة نفسها.
ففي النهاية "الحقيقة" كمفهوم هي شيء في ذهن الإنسان، وإذا اختفى الذهن قد يختفي المفهوم نفسه. أقول قد يختفي وليس يختفي حتما، لأن هناك احتمالية أن تكون الأفكار التي توجد في الذهن ليست من إنتاج الذهن، وإنما هي نُسخ أو انعكاس لواقع خارج الذهن، هو واقع وجود الأفكار، ولا أقصد الواقع المادي بل شيء شبيه بعالم المُثُل الأفلاطوني، حيث للفكرة وجود آخر غير وجودها الذي تتلقاه وتستفيده من الفكر كنشاط إنساني كما يقول ديكارت. وبالطبع فإن هذه الفرضية هي بحد ذاتها مجرد فكرة في الذهن، والذهن نفسه مجرد فكرة، فعندما نقول "الذهن" فنحن نشير الى فكرة أُخرى…
كان ذلك فيما يتعلق بالمعرفة وفكرة وجود حقيقة مفارقة للإنسان. والآن، هل يُمكن التفكير في الأخلاق بالطريقة نفسها؟ حينما ننظر للأخلاق كقانون، سنجد أن القانون الأخلاقي يختلف عن القانون الطبيعي بما يجعل فكرة وجوده بمعزل عن الإنسان أكثر غرابة من فكرة وجود القوانين الطبيعية بمعزل عن الطبيعة/ المادة. إن افتراض وجود قانون طبيعي مفارق للطبيعة/المادة هو افتراض ميتافيزيقي غير قابل للبرهان ما دمنا لا نستطيع أن نذهب إلى ما وراء الطبيعة/المادة، لنرى ما يوجد سابقا لها، أو ما وراءها وبمعزل عنها. فالإنسان يكتشف القوانين في المادة ومن خلال التجربة على المادة. مثلا لا يمكننا أن نتكلم عن قوانين الحركة بدون مفهوم الكتلة، الذي هو مفهوم مادي.

بالنسبة للقانون الأخلاقي، فهو لا يشتغل من تلقاء ذاته مثل قوانين الفيزياء، وإنما هو بحاجة إلى الإرادة الإنسانية لكي يشتغل. فقوانين الطبيعة تصف الطبيعة كما هي موجودة، بينما قوانين الأخلاق لا تصف الإنسان كما هو كائن وإنما تحدد ما يجب أن يكون عليه.
القانون الأخلاقي يقول بأنه "يجب" على الإنسان أن يكون على هذا النحو. فكيف يُمكن تصوُّر وجود هذا القول بدون وجود الإنسان؟ إن اختفى الإنسان، فأين ستبقى الفكرة "يجب"، وعلى ماذا ستشتغل؟ قد يُقال بأن هذه الـ "يجب" هي كلمة أزلية سابقة للإنسان، مثلما أن القوانين الطبيعية هي كلمات سابقة للمادة، ويعبِّر القانون الأخلاقي عن نفسه خلال الإنسان، مثلما يعبِّر القانون الطبيعي عن نفسه في الطبيعة. بتعبير مجازي آخر، هناك قوة في الوجود تسري في المادة وفي الإنسان فتنتج عنها القوانين الطبيعية والأخلاقية، وبمعزل عن المادة والإنسان تبقى هذه القوة كوجود خالص.
وبلغة أكثر مجازية ودينية، الأخلاق توجد بمعزل عن الإنسان لأن الله موجود، فهو المصدر المطلق للمعيارية والموضوعية، أو للحق والحقيقة، للأخلاق والمعرفة. مشكلة هذه الفكرة هي أنها تنطوي على مسافة فاصلة بينها وبين الإنسان، على الرغم من أنها -بطبيعة الحال- فكرة إنسانية. فعندما نقول أن هناك شيء مفارق للإنسان، فإننا بحاجة إلى دليل مستحيل عقليا. لأنه إذا كان مفارقا حقا، فيجب أن يكون خارج متناول العقل الإنساني، وبالتالي يستحيل الوصول إليه. أما إذا كان يمكن الوصول إليه فلا يمكن أن يبقى مفارقا مع ذلك.
إن العقل الإنساني حينما يتوصل إلى الأفكار تكون هناك مشكلة في تحديد ما إذا كانت هذه الأفكار موجودة خارج العقل وأنه قام باكتشافها، أو أن هذه الأفكار هي من إنتاج العقل نفسه ولا تعكس أي حقيقة متجاوزة أو مفارقة. ولكن ما هو العقل؟ ألا يمكن أن يكون قبسا من المفارق، بحيث يصبح اكتشافه للأفكار ليس أكثر من عودة إلى أصله؟
يتبع..