شعار قسم مدونات

موريتانيا سنوات الجمر الديموقراطي

blogs-morit

 

لم تشهد موريتانيا واقعاً استقطابياً وانقساماً منذ 1989 وأحداث السينغال الأليمة، كما تشهده اليوم من انقسام بات في نظر الكثيرين يهدد وحدة البلاد ولحمتها، ويزداد الوضع غرابة حين يكون هذا الانقسام في عز ما يُسمى بالتحول الديموقراطي الذي يشهد العالم من حولنا حتى باتت موريتانيا أقرب في عهدها الديموقراطي لمصطلح سنوات الجمر الاستثنائية.

    

 ذلك إن الاستبداد و انتهاك الحريات و الدوس على الحقوق المنصوص عليها في الدستور يفوق بكثير جرائم العهود الاستثنائية التي ظلت تقوم بجرائمها خارج المثل الديموقراطية والمدنية ودون أن  تتستر بردائها وبصدق مع ذاتها ومع العالم على عكس الحاصل اليوم ، حيث اليافطة الديموقراطية التي تحجب كل تلك الممارسات المشينة بدءاً بتجاوز الشراكة الديموقراطية الأصيلة التي شكلتها المعارضة الموريتانية التقليدية على مر العقود الماضية و لتحل محلها معارضة أخرى خرجت من رحم الأنظمة بعد عملية غسل كئيبة و بروباغندا إعلامية عارمة لتمريرها كبديل في وقت لم تكن فيه الا تبيعا للأنظمة السابقة بدءاً من عهود "ولد الطايع" المتوالية و حتى اليوم .

     

ولا يتوقف الأمر في صناعة المعارضة الوهمية التي تحضر الزيارات وتنظم الاستقبالات الرئاسية وتساهم في عمليات تلميع النظام كأي جهاز حزبي موال للنظام ضمن أغلبيته أو إدارته المُسَخرة لخدمة أهدافه السياسية، بل يتجاوزها للدفاع عن سياسة النظام والإشادة بها حتى في أحلك الظروف التي تنتهك شراكة الموالاة أو بالأحرى بشراكة المعارضة.

        

لقد بدى المشهد ديموقراطياً للخارج وهو ما عمى المراقبين عما يُدبّر له في ليل الثكنات العسكرية بما فيه الحرس الرئاسي الذي لا يتنفس القصر إلا من خلال قصباته 

ما قبل سقوط نظام المدني والتربص بالسلطة:

توقع كثيرون بعد سقوط "ولد الطايع" أن تتجه موريتانيا لتعديل شامل في سياستها و رؤيتها للدولة الديموقراطية المدنية وبعد انكشاف نظام ولد الطايع وزبانيته وأعوانه، فيما يمكن أن يعرف بكشف الغطاء عن بصائر الجماهير، لتشكل فترة التربص التي قضاها العسكر في السلطة كفترة انتقالية أشاعوا فيها أنهم خارج الصراع وأداة مساعدة للسياسيين لإعادة تكوين و تشكيل المشهد السياسي الذي تجه في عمومه لدعم التشكيلات في المعارضة التقليدية وشكل عزوفاً و تشتتاً لأحزاب الموالاة التقليدية التي خلفها "ولد الطايع" ما بين هجر المشهد السياسي و الذوبان في تشكيلات أخرى خاصة للصفوف الخلفية في القيادة التي لم يحرقها الإعلامي الطايعي .

                

إلا أن ذلك الحياد الذي أعلنه العسكر لم يكن بتلك الحقيقة التي حاولوا الترويج لها و لم تمض السنة الأولى من إعادة التشكل حتى بدأت موجة أخرى من التشكل وإعادته، التي أفرزت صبيحة 19 من ابريل 2007 انتخاب "ولد الشيخ عبد الله" و الذي وإن شهد انتخابه الكثير من الأخطاء في أولها دعمه من طرف التشكيلات الموروثة عن نظام "ولد الطايع" بجنحتها المالية والسياسية والعسكرية، إلا أن الانتخابات حملت الكثير من الأمل للموريتانيين بمن فيهم المعارضة التي عولت على خروج العسكر من المشهد السياسي وعبَّرت عن دعمها للنظام و استعدادها للعمل معه بما يخدم الديموقراطية الموريتانية .

           

 لم تكن ترتيبات الانقلاب العسكري لتتجاوز دقائق معدودة استدعي فيها الرئيس
 لم تكن ترتيبات الانقلاب العسكري لتتجاوز دقائق معدودة استدعي فيها الرئيس" ولد الشيخ عبدالله" طلباً ليقابل حارسه  ثم غُصب تحت التهديد على ترك الحكم
 

إلا أن نظام "ولد الشيخ عبد الله" لم يكن سوى رأس مفصول عن جسم الدولة وأذرعها المتحكمة وظهر الرجل مكبلاً بالوعود الانتخابية ومحاصراً بأطماع العسكر الذين يعترف لهم بالفضل بالدعم الكامل، إلا أن الأسوأ في فترة حكم الرجل لم يكن سوى عودة القوى الطايعية عبر مشهد مسرحي جديد وفي ثوب جديد اسمه "نظام الأغلبية الرئاسية والحلف المقدس" ملغوماً بعناصر معارضة أو حديثة قدمت كبديل، ورفعت يافطات نضالها الذي لم يكن في حقيقة الأمر سوى صفقة مع العسكر لإرباك الرجل وإجباره على السقوط في أحضان العسكر أو الاستقالة.

 

لقد بدى المشهد ديموقراطياً للخارج وهو ما عمى المراقبين عما يُدبّر له في ليل الثكنات العسكرية بما فيه الحرس الرئاسي الذي لا يتنفس القصر إلا من خلال قصباته ولا يبصر إلا من خلال كاميرات مراقبته لكل صادر ووارد في بريده اليومي.

         

أما في الداخل فقد أدهش الموقف المراقبين المحليين بين مؤيد للصراع بين الرئيس ومؤسساته الديموقراطية وبين من يرى أحقية الرئيس في تشكيل نظامه دون الاعتماد الكلي على الأغلبية المؤيدة له.

 

 غالبية تشكيلات المعارضة التقليدية رأت في محاولات الرئيس الخروج من ربقة أغلبيته، فرصة أخرى للعودة للمسار الصحيح الذي كان يجب أن تفرزه انتخابات 25 مارس 2007 م

لقد برزت الأغلبية الموالية كنص "دستوري" لا يمكن الخروج عليه وهو ما فهم أخيراً أنه إيعاز عسكري جهوري لكتيبة من المدنيين الذين لم يخبروا مهارات الميدان فيما عرف بالكتيبة البرلمانية التي كانت فيما يبدو واجهة لكتيبة الحرس الرئاسي المتحكمة في مفاصل النظام والمسيطرة بتجهيزاتها وعتادها وعدتها على مؤسسة الجيش المغيب في قيادات الأركان والوزارة "الحاضر الغائب " والغائب الفعلي منذ محاولة الفرسان الانقلابية في 2003م.

            

أمام المواجهة البارزة التي واجهت الرئيس "ولد الشيخ عبد الله" مع أغلبيته و شعوره بالحصار عسكرياً في أروقة القصر وسياسياً في مؤسسة البرلمان "الغرفة السفلى" بالذات اتخذ الرجل تكتيكاً جديداً بهدف إشراك شركاء جدد من خارج الأغلبية التي صنفها على أنها رديف للجيش و أن محاولة الخروج من ربقتها لن يكون إلا بتشكيل حلف جديد تخلف عنه أكبر الأحزاب المعارضة "حزب تكتل القوى الديموقراطية " والذي بلا شك كان على خلاف كبير مع الرئيس "ولد الشيخ عبد الله" خاصة أن الحزب يقود مؤسسة المعارضة التي بدأ بعد فترة قصيرة من إبعادها من المشهد السياسي و حتى وصل الأمر للوقف الاجتماعات الدورية كل ثلاثة أشهر بين زعيم المعارضة والرئيس .  

                    

ويبرر كثيرون موقف التكتل من قرار "ولد الشيخ عبد الله" بإيقاف اللقاءات مع زعيمه المنصوص عليها بالقانون وإخلافه لكثير من الوعود الإصلاحية التي قطعها له في الاجتماعات اليتيمة التي حصلت في النصف الأول من عامه الأول في السلطة. وهو ما يراه المدافعون عن الرئيس "ولد الشيخ عبد الله" من عمل الأذرع التي كانت تحيط بالرجل وليس بفعل قرار منه شخصياً أن التكتل بقراره ذلك لم يكن سوى رديف آخر للعسكر للانقضاض على الحكم ووأد الديموقراطية الوليدة، إلا أن الحزب عاد واعتذر بعد سنوات عن قراره، وهو الأمر الذي أكده انقطاع الصلة الكلية والثقة بينه مع النظام وعزوفه عن أي حوار لا يمكن من مهددات مكتوبة واتفاقيات صريحة مؤكدا عدم ثقته في نظام ولد عبد العزيز وما يعلنه.

                

إلا أن غالبية تشكيلات المعارضة التقليدية رأت في محاولات الرئيس الخروج من ربقة أغلبيته، فرصة أخرى للعودة للمسار الصحيح الذي كان يجب أن تفرزه انتخابات 25 مارس 2007 م من خروج للعسكر وتشكيل نظام سياسي من أغلبية من يقود السلطة ومعارضة مشاركة في المراقبة وقادرة على الولوج للمعلومات وتحظى في ظل النظام الديموقراطي بما تكفله قيم الدستور وخصائص الدولة الديموقراطية المدنية. 

            
إلا أن هذا التشكل الذي افرزته الوزارة الجديدة والتي أوصلت الأمور حد "الاشتباك" هي التي سرعت على ما يبدو أجندة العسكر، انتهت بحسم الرئيس لأمره واتخاذه لقرار إقالة كبار الضباط الذين حملهم مسؤولية التصعيد وتجييش البرلمان، لتكون نهاية النظام بانقلاب سلسل وسريع أنهى كل مظاهر الدولة المدنية التي حلم بها الشعب الموريتاني وبداية أزمة جديدة من الشد والجذب.

 

عاد
عاد "ولد عبدالعزيز" الرئيس الموريتاني الحالي، بعد انتخابات خاطفة  شابها الكثير من اللغط بغياب دور ثاني وسط كل الانقسامات وهو ما بدا للمراقبين حالة نادرة لا يمكن أن تحصل إلا في عمليات التزوير خاصة لرجل لا يمتلك كاريزما الرؤساء 
 

الانقلاب العسكري "الحراس في الواجهة "

لم تكن ترتيبات الانقلاب العسكري لتتجاوز دقائق معدودة استدعي فيها الرئيس طلباً ليقابل حارسه ثم غُصب على ذلك تحت التهديد، لينتهي كل شيء وليعود العسكر للواجهة ببرلمان مؤيد لهم ومجلس شيوخ رافض للانقلاب أو متحفظ حيث تراوحت الدعوات فيه لرفض الانقلاب إلى أن سيطر نائب رئيس مجلس الشيوخ وتراجع بعضهم عن القرار بعد استتاب الأمن للعسكر.  

      

لقد خلق الانقلاب واقعاً جديداً وانقساماً جديداً في الصراع السياسي دون أن يصل تأثيره للساحة الشعبية بتلك الدرجة من الاحتقان والتأزم، إلا أن اتفاق دكار وما عقبه من اتفاقات لم تر النور وسهلت كما يبدو بمعية الشركاء الغربيين والفرنسيين خاصة، لتكون مخرجاً من الأزمة بخروج الرئيس بالاستقالة وعودة الخصوم لانتخابات شارك فيها الجميع بمن فيهم الجنرال المنقلب على الديموقراطية في بدلة مدنية جديدة سيكون لها ما بعدها في تاريخ القصر الموريتاني. 

        

بدا المشهد الموريتاني بعد اتفاق دكار أكثر تماهياً مع النظام التقليدي الذي خلفه "ولد الطايع" بظهيره الجوي والقبلي والعسكري والمالي ليلتف خلف "ولد عبد العزيز" الذي كان يمسك باللعبة عبر غرفة البرلمان وشيئاً ما عبر مجلس الشيوخ الذي يقود رئيسه السابق العملية السياسية الانتقالية التي افرزها دكار كرئيس مؤقت أقرب ما يكون لرجل الثلج المتأنق في بدلته دون قدرة على الحراك أو التأثير في المشهد البارد.

             

عاد "ولد عبد العزيز" بعد انتخابات خاطفة شابها الكثير من اللغط والاستغراب بغياب دور ثاني، وسط كل تلك الانقسامات وهو ما بدا للمراقبين حالة نادرة لا يمكن أن تحصل إلا في عمليات التزوير خاصة لرجل لا يمتلك كاريزما الرؤساء ولا خطاب الإقناع ولا مهارات الحديث التي يمكن أن تؤثر في الناخبين ولا يحمل مشروعاً يمكن الاقتناع به سوى الوعود الخاصة والأثمان الانتخابية التي دعمه فيها المال السياسي المسيطر والمتربع على سنن الفساد واللاشفافية.

               

حين يكشف الجنرال عن طموحه

لم تحمل المأمورية الأولى للرجل الشيء الكثير و لم تحقق أحلام الموريتانيين في شيء، إلا أنها تميزت بخطاب سياسي براق و ألقاب بروباغندا تحاكي انتفاخاً صولة الأسد، فمن رئيس الفقراء الذي لم يحقق من رفاهية إلا دكاكين تبيع مواد من الدرجة الثالثة بأسعار مخفضة وطوابير طويلة وحصص قليلة جداً إلي سنة التعليم التي لم تتجاوز نسبة 10% من المتقدمين للحصول على الشهادات المهمة، لتدني كبير في مستوى الطلبة ومخرجات المؤسسات التعليمية وبيع المدارس وندرة الكتب  المنهاج التعليمية ونقص كوادر التدريس والقضاء على التعليم في الأرياف و التجمعات بفعل غياب المدارس والمدرسين الذين تحولوا لموظفين في الوزارات عن طريق نظام الإعارة الذي استفاد منه المقربون، لغياب السيطرة  كثرت الغيابات في صفوف طواقم التدريس والإدارة.

    

يرى كثيرون أنها لا تتجاوز عمليات استهداف وابتزاز للحصول على نسخ من المكالمات والمحادثات التي تهم النظام بما فيها خصوصيات وزرائه وكبار ضباطه ورجال أعماله إضافة طبعاً للمعارضين له

إلا أن أكثر الشعارات التي أطلقها النظام هي تلك التي تتعلق بالفساد هو الجسم الغريب الأخطر بعد العسكر في جسم الدولة الموريتانية والذي عانت منه على مدى العقود الماضية من حكمها ويجمع المراقبون على أنه إنتاج عسكري أصيل، غاب عن الجمهورية الأولى على علاتها ومساوئها. هو الشعار الذي ترجمه النظام بصفقة التراضي التي ميزت فترة حكمه و شهدت فضائح يندى لها الجبين، إلي بيع المدارس وعقارات الدولة لتجريد المؤسسات الكبيرة من ميزة استيراد احتياجاتها لصالح موردين من النظام والمقربين منه، وتحويل المؤسسات الخدمية لشراكات بين كبار الضباط والمقربين من دائرة الحكم وانتهى الأمر بالحديث عن عمليات استيلاء كبرى على اطلالات الشوارع العام وواجهات المؤسسات الحكومية من طرف رأس نظام وعائلته وتحويل ممتلكات الدولة لصالح جمعية وهمية انشأها الرئيس لولد البكر الذي وافاه الأجل المحتوم لتتحول لسبات ناعم او مؤسسة تعمل في الخلفية أو متعاونة علناً مع مؤسسات إغاثة محلية أو دولية، لكن دون أن يسجل لها أي نشاط بالمقارنة مع ما تملكه أو سجل باسمها من ممتلكات قدرت بالمليارات.

      

وعلى مستوى الإعلام و حرية الصحافة فقد شهدت البلاد موجة عارمة من الانفلات الإعلامي التي خطط لها النظام بصناعة إعلام هزيل بلا كفاءات ولا امكانيات  ورصد له أموالاً كبيرة في شكل مساعدات للقطاع الاعلامي المستقل لكنها في الحقيقة ظهرت كرشاوى تمنح للمقربين من النظام ومن يسهرون على تمرير خطابه حتى ولو لم يكونوا على مستوى الكفاءة، مما شكل تمييعاً للوسط الإعلامي و جعله مهنة من لا مهنة له و سوق العاطلين عن العمل الذي يوفر لك الرشاوى و يضعك على سكة الابتزاز سوى لأفراد النظام خشية تشويه صورتهم أمام الذي لا يرد نمامه ولا يكذب واشيه وحتى في ابتزاز الأشخاص العاديين من خلال هتك الخصوصية. لقد رأى الكثيرون في هذا الأجراء أكثر الضربات الموجعة لرديف الديموقراطية "الإعلام" وسلطته عبر تسريب الدخلاء الذين ينتمي أكثرهم لمؤسسات النظام الأمنية.

    

أما على مستوى الحريات فقد شهدت فترة الرئيس الحالي الكثير من التضييق على الحريات بسجن معارضين للرئيس ومنع الحق القانوني في التظاهر والتعبير عن الرأي واستهداف المحصنين دستورياً من خلال اعتداءات رجال امن النظام عليهم وسجنهم وتلفيق التهم لهم والاعتداء على خصوصياتهم (تسريب محتويات هاتف ولد غده ومحادثته الشخصية والسياسية مع أطراف أخرى) رغم أنها كانت في حوزة القضاء والدرك.

كما تميز عهده بسجن الكثير من أصحاب الرأي الشباب والصحفيين الجادين الذين تعرضوا لكثير من المضايقات بدءاً من السجن والاستدعاء واختراق مواقعهم وصفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي ونشر محادثات مبركة لهم.

       

الطامة الكبرى التى عززت الانقسام المجتمعي وشكلت بداية الاستقطاب الفعلي هي الدعوة التي أطلقها النظام ورئيسه في خطاب النعمة2016 بحل مجلس الشيوخ
الطامة الكبرى التى عززت الانقسام المجتمعي وشكلت بداية الاستقطاب الفعلي هي الدعوة التي أطلقها النظام ورئيسه في خطاب النعمة2016 بحل مجلس الشيوخ
 

و تفاقم الوضع بتسريب لما اعتُبر أكبر فضيحة في تاريخ البلد للتجسس على الأشخاص عبر شراء منظومة تجسس أشرفت عليها شركة هندية وخبراء من إيطاليا والهند انتهت بهروب الشركة وسجن الخبير الإيطالي ولا يعرف إلى الآن عمل تلك الشبكة التجسسية التي تخترق خصوصيات المواطنين المكفولة بالقانون ولا يستبعد آخرون أن تكون شركات الاتصال نفسها شريكة في الجريمة بفعل الضغوط التي تمارس عليها والتي تشكلت في شكل ضرائب مجحفة وتقارير عن سوء الخدمة من سلطة التنظيم يرى كثيرون أنها لا تتجاوز عمليات استهداف وابتزاز للحصول على نسخ من المكالمات والمحادثات التي تهم النظام بما فيها خصوصيات وزرائه وكبار ضباطه ورجال أعماله إضافة طبعاً للمعارضين له. 

 

أما على مستوى تدعيم المؤسسات فقد شهدت المأمورية الثانية في بدايتها الدعوات المتكررة لتعديل الدستور دون اتفاق شامل مع الفرقاء السياسيين والشركاء حيث عمد النظام لتغييرات عديدة بشكل منفرد ومدعوم من مولاة خلق منها أغلبية ومعارضة وهمية وفرضها كجزء من المعارضة بعد إعادة تشكيل قانون مؤسسة المعارضة عبر إرباك المؤسسة بتشكيلات لا تمت لها بصلة.

             

ففيما يتعلق بالدستور الذي تعرض لسابقة تاريخية بتعديل أفرزه حوار بيني للنظام ومن أسماهم الشركاء ومؤسسات المجتمع المدني والتي أفرغت من معانيها الحقيقة عبر العديد من العناوين والانقسامات المبرمجة لها بهدف السيطرة عليها وتوجيهها لمصلحة النظام الحاكم وهو ما كان له أثر سلبي على واقع عمل هذه المؤسسات ودورها في تنمية المجتمع كظهير للمؤسسات الديموقراطية.

 

لكن الطامة الأكبر التي عززت الانقسام المجتمعي وشكلت بداية الاستقطاب الفعلي هي الدعوة التي أطلقها النظام ورئيسه في خطاب النعمة 2016 الذي أعلن فيه بقرار منه حل مجلس الشيوخ الذي أشرنا فيما سبق إلى أنه لم يكن بالنسبة للجنرال حليفاً إضافةً لصراعات شخصية من بعض قادته تميزت بالشد والجذب وصناعة التحالفات المضادة. ليحل محله مجالس جهوية على مستوى الولايات وهو ما برره الرئيس لاحقاً بالميزانية الكبيرة للشيوخ وقلة العوائد في وقت يرى فيه الكثيرون غياب أي رابط بين المؤسسة القائمة والمؤسسات المقترحة حيث الشيوخ مؤسسة من مؤسسات الدولة الديموقراطية وصمام آمن في المؤسسة للحيلولة دون تمرير رأس النظام أو الحكومة لأجندتها عبر مؤسسة واحدة يمكن السيطرة عليها أو على بعض اغلبيتها. وبين مؤسسات جهوية تنموية واقتصادية مفترضة يكفي قانون لإقرارها عبر البرلمان دون دسترتها مما جعل الكثيرين يرون في القرار مجرد محاولة لوضع الدستور على سرير التشريح وإقرار مواد أخرى تدعم سلطة "ولد عبد العزيز" ونظريته في الحكم سواء تعلق الأمر بإمكانية دسترة المأموريات المفتوحة أو إعادة تشكيل نظام الحكم عبر سلطة البرلمان الأحادي الذي قد يعمل "ولد عبد العزيز" للعودة للسلطة من باب النظام البرلماني.

 

كما يقول أهل القانون فإن المشرعين الدستوريين هم الأخطر على الدستور عبر تلقيمه بالثغرات وقدرتهم على ايجادها لتكون مخرجا لكل طاغية

إلا أن القاصمة الأخرى تمثلت في إصرار النظام على تعديل العلم الوطني الذي مات تحته البناة الأوائل للدولة وشاب تحته الشباب الذي واكبوا المرحلة الثانية وشبت تحته الأجيال المتأخرة وسيطر على وجدانها ولم يطرح أبداً على طاولة البحث عكس النشيد الوطني الذي يطالب البعض دائماً حتى في ظل النظام المؤسس للجمهورية الأولى لإضافات يحتاجها بدء مما يشير لرمزية الدولة والاعتزاز بها وبقيم الديموقراطية التي لا يشير لها النشيد في كلماته.

   

حيث أصر النظام على تعديل العلم ليحمل رمزية للشهداء لا يرفضها الكثيرون لكنهم يرون فيها مطلباً للتدارس والبحث بين كل القوى المشكلة للمشهد بدل إقرارها من جهة في السلطة أو جزء من الشركاء دون غيره. فيما يرى أخرون أن النشيد نفسه محل الخلاف كان يمكن أن يكون هو المستهدف ويضاف له ما يغيب من رمزية الشهداء والدولة الحديثة دون المساس بالعلم الذي ارتبطت به الأجيال عكس النشيد نفسه الذي تختلف فيه الكلمة عن اللحن الثابت دون زيادة حتى ولو زيدت الكلمات.

      

لقد حملت هذه الإجراءات (الشيوخ – المجالس الجهوية – العلم – مواد أخرى مبهمة لحد ساعة ) مادة الاستفتاء الشعبي جدلاً واسعاً وحراكاً واستقطاباً كبيراً على مدى عام من محاولات النظام لتمريرها عبر الغرف حيث رفضتها الغرفة العليا (مجلس الشيوخ ) بأغلبية مريحة بعد تمرير البرلمان (النواب) لها وهو ما شكل بداية صراع آخر انطلق فيه النظام من حقه عبر المادة (38) التي تتيح للرئيس سؤال الشعب عبر استفتاء فيما يرى آخرون أن أي تعديلات للدستور يجب أن تمر عبر المادة المخصصة للتعديل فيه و ليس خارجه، وكل مراجعة للدستور لا تحترم أحكام الباب الحادي عشر من الدستور الموريتاني هي مراجعة غير دستورية وحددتها المواد 99، 100، 101من الدستور الموريتاني.

       

لكن كما يقول أهل القانون فإن المشرعين الدستوريين هم الأخطر على الدستور عبر تلقيمه بالثغرات وقدرتهم على ايجادها لتكون مخرجا لكل طاغية من حصاره الدستوري. إنها (جريمة تلقيم البناء بالثغرة وجريمة هدم الثغرة).

         

لن يحيط مقال سريع بكل الجرائم التي قام بها هذا النظام في ظل فترة حكمه سواء تعلق الأمر بتدمير الاقتصاد الموريتاني و نهب ثرواته أو تدمير بنيته المجتمعية و السياسية عبر عودة القبيلة بقوة أكثر من ذي قبل و استغلال النعرات للحصول على التأييد وربط الولاء به بالامتيازات مما يجعل القبائل والجهويات في تنافس محموم لإرضاء النظام للمحافظة على مكانها وموقعها في الحيز الجغرافي و الإرث التاريخي الذي تشغله وهو ما خلق جمهور قبليا في كامل الاستعداد لخدمة النظام بمقابل ضئيل وجعل من النخب في السلطة أدوات تأييد و تجييش للنظام دون مردود عملي في مواقع عملها اليومي.

        

يقف المراقب للشأن الموريتاني بكل حيرة أمام ما يسعى له النظام وما يحث الخطى نحوه في مستقبل البلد المأزوم بالكثير من المعضلات على المستوى السياسي 

إلا أن الانتكاسة الأخرى الأكثر بشاعة هي الذهاب لإقرار تعديلات عن طريق تزوير المحاضر وحشو صناديق الاقتراع حتى أن البعض يتندر بالأصوات القليلة التي عبر عنها في مكاتب مثل مكاتب باريس حيث شهدت "بطاقات لاغية " رغم أن غالب الجالية من المثقفين والأطر المغتربة، عكس قرية نائية تفتقد للتعليم بلغت نسبة التصويت فيها 100% بل وتجاوزتها قرى نائية أخرى أوصلت تصويتها 120% من الأصوات المعبرة عنها مقابل المسجلة في المكاتب.

      

تميزت فيها العملية التصويتية بتصويت الأموات والأحياء والنيابة والتصويت بلا وثائق ثبوتية وكل هذا وسط مقاطعة كبيرة من السكان والأحزاب، حيث اقتصرت التعديلات على تصويت عام بلغ قرابة نصف المليون بزيادة قليلة من أصل مليونين يحق لهم التصويت قاطعوا التسجيل والتصويت منذ انتخابات 2014 والتي قطعتها المعارضة ومؤيدوها. وهو ما يشكل نسبة لا تصل 25% من المصوتين تجمعت من البوادي والأرياف والقرى عكس المدن الكبيرة التي شهدت مقاطعة منقطعة النظير.

           

و أما هذه الفوضى العارمة يقف المراقب للشأن الموريتاني بكل حيرة أمام ما يسعى له النظام وما يحث الخطى نحوه في مستقبل البلد المأزوم بالكثير من المعضلات سواء على المستوى السياسي في الصراع مع سيطرة العسكر على الدولة أو على المستوى الاجتماعي بقضايا الإثنيات ومخلفات العبودية والغبن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي أمام ضعف أداء الأنظمة وكفاءتها في وضع حلول ناجحة أو إشراك جميع أبناء الوطن في تسيير بلادهم في جو من الشحن العاطفي والإساءة لمكونات مجتمعية ومرجعيات سياسية ودينية وجهوية فيما يفسره البعض بسياسة "فرق تسد" ليظل العسكر في السلطة كوحدة متناسقة ومتشابكة المصالح .

     
فمتى يبزغ فجر الجمهورية التي تعود بالبلاد لجادة الطريق ؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.