أنتجَ النموذجُ العربي حكاماً أشبهَ بالآلهة. في البدء كانوا من الشعب ثمّ أصبحوا فيما بعدُ آلهةً تعيشُ في الظّل، وتحرصُ على ألا تظهرَ إلا في صورة الاله الذي كانَ من قبلُ بشراً سوياً ولم يعد. نضربُ مثلاً بالحكم في مصر وليبيا وسوريا، أمثلة حيّة عن الحاكم الإله الذي انتقل من مرتبة عسكري ابن الشعبِ إلى إلهٍ تعالى عن كلّ شيءِ وترفع عن كلّ منصب. فأصبح العالم العربي بحاجة مرّة أخرى إلى النموذج كلّما شاهد على التلفاز حاكماً أوروبيا يعترفُ بالهزيمة ويهنّئ غريمه، حاكمٌ فرنسي يتوقف عن تقديم نفسه مرشحاً لا لشيء سوى لأنه يرغبُ في التغيير. بينما ظلّ حكام العرب يغيّرون الدستور ويرقعون ويخيطون بما تمليه عليهم سجيّتهم أعلامَ أوطانهم. حتّى إن إلهَ ليبيا المخلوع معمّر القدّافي قائد الثورة، قالَ وهوَ يخطبُ في آخر ظهور له: كيفَ أستقيل.. لو كانَ لدي منصبٌ أصلاً لتركته، لكن لم يكن لدي منصبٌ في الأصل. لقد اعتبرَ الرجلُ نفسهُ جسداً متماهياً في الحكم لا فرقَ بينه وبين الوطن، الإلهُ الحاكم هو الوطن. لا يمكنُ خلعهُ عن الحكم دون أن يدمّر الوطن.

كلّ شيءِ ينزلُ وحياً من السماء التي يقبعُ فيها أشباه الآلهة التي تقرّر كيفَ يكونُ الأمر ومستقبل الشعب المغلوب على أمره، لأنها أشباهُ آلهة خلقت لا لشيء سوى أن تمثّل النموذج العربي. |
انتهى زمن الربيع وولّى، وذبلت زهرة الياسمين ودُفنت قرابينه، عادَ الجميعُ إلى بيوتهم وساد الصّمت من جديد. الحناجرُ التي كانت تصرخُ في الميادين هيَ نسفها التي تصرخُ خلف التلفاز وهيَ تشاهدُ مباراة ريال مدريد وبرشلونة، وهيَ نفسها التي تراقبُ بأمل كبير حملة ماكرون ولوبان المتنافسان على حكم فرنسا. هم نفسهم الذينَ وجدوا ما يشفي الغليل في متعة مشاهدة عرسٍ ديمقراطي يعبّر عنه الأتراك في استفتاء تغيير الدستور الذي لم يحقق سوى أقل من واحد وخمسين بالمائة من الأصوات، ذلك بعد أن ضجروا من الاستفتاء العربي الذي يقدّمُ على الأقل في أدنى الإيمان تسعة وتسعين فاصل تسعة وتسعين بالمائة من الأصوات. هم نفسهم الذين يتابعون حاكماً أوروبيا يتنازل على الحكم من أجل أن تستمر الدولة دون أن يتغيّر الدستور أو يتداعى الصرح الديمقراطي. بينما في العالم العربي يحصلُ الحاكم الإله على تسعة وتسعين بالمائة فاصل تسعة وتسعين، فيبحث عن صفر فاصل واحد بالمائة الذين لم يصوّتوا له لتصفيتهم ويجري خلفهم في الأزقة. هيَ إذن رحلةٌ للبحث عن النموذج، لن تتوقف هنا بعد الربيع.
لقد ولّى الربيع ولم يترك شيئاً، لأن النظام العربي والشعب أيضاً، جُبلَ على الإشاعة. حياة المسؤول مرتبطة بالكرسي، لا يفارقه حتّى بعد الموت. السياسي يراكم ثروة بمباركة الأنظمة الحاكمة التي انتخبها الشعب نفسه. بينما في أوروبا يحاكمُ البرلماني والسياسي وعمدة المدينة على كلّ فلسٍ أنفقه على نفسه. من منا لا يذكرُ حادثة آلة تحضير القهوة التي احتجّ بسببها المتظاهرون البريطانيون بعدَ أن ظهرَت في مكتب كاميرون رئيس وزراء بريطانيا. لم تمضِ عن المظاهرة ساعة حتّى خرج كاميرون بتصريح ونشرَ فاتورة شرائه للآلة تحمل اسم المحل الذي اقتناها منه من ماله الخاص. هذا لأنه النموذج. بينما في العالم العربي، وجدت مرايا من الذهب في منزل الرئيس بن علي. وسيارات فارهة وقصور وأموال وذهب في منزل القدّافي ومبارك… وأصغرُ السياسيين عندنا يملكُ ما لا يملكُه كاميرون وأكثر. البرلماني يعيشُ في قصر وتكبرُ مشاريعه بسرعة البرق. وكلّما علا السياسي العربي أصبحَ يقربُ إلى السماء لينافس الإله فيها.
وإذا كان النموذجُ أو الأنموذج في اللغة يعني المثال الذي يبنى عليه ويقتدى بهِ، فقدَ وجدَ الشعبُ العربي المثال في الانتخابات الفرنسية، وكرة القدم الإسبانية، واستفتاء بريطانيا، ومعاملة الحكومة الألمانية للاجئين العرب وغيرها من المثل العليا في الديمقراطية والسياسية والمجتمع. لقد أصبحَ العالمُ العربي شغوفاً بالبحث عن النموذج، نموذج لا يمكنُ أن يجده إلا على شاشة التلفاز أو على شبكات الأنترنت.
بينما سيظلّ النموذج العربي فاشلاً منقوصاً لأنه لا يمثّل الشعب في غالبيته ويأتي من الأعلى نحو القاعدة. بينما ينطلقُ المثال الأوروبي من الشعب نحو الشعب، من القاعدة التي تصوت نحو القاعدة التي تقرر مصير السياسي. هيَ إذن مفارقة ومقارنة غيرُ عادلة بينَ مثال يعتبرُ النموذج في كلّ شيءٍ لأنه يحتكم إلى الشعب. وبينَ أنظمة عربية تتخبط في التجارب التي تتحكّمُ في الشعب وتفرضُ عليه من السماء. وكلّ شيءٍ عند العرب يأتي من السماء، الدينُ والسياسة والقانون والدستور، كلّ شيءِ ينزلُ وحياً من السماء التي يقبعُ فيها أشباه الآلهة التي تقرّر كيفَ يكونُ الأمر ومستقبل الشعب المغلوب على أمره. تقّرر الأرزاق والأسماء والبناء والتاريخ وكلّ شيءٍ، لأنها أشباهُ آلهة خلقت لا لشيء سوى أن تمثّل النموذج العربي.