نشاهد اليوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، شباب يتغيرون وفق كل مؤثر، يتحمسون لكل رأي مما يخلق لديهم ارتباكا. لذلك فتحكيم العقل بعيدا عن العاطفة والانفعال وحده الكفيل بتحقيق ذلك. |
لقد أصبحت مجتمعاتنا في أمس الحاجة لتطبيق هذه المقولة، وذلك لتنامي منظومة فساد بات فيها الخير والشر حليفين بانصهار علماء الأمة وحكمائها مع العامة وجلوسهم تحت مظلة الحماية، فأصبح الفاسدون يعيتون في الأرض فسادا ويتحدثون عن الإصلاح والوطنية، يرسمون شأن العامة والأغلبية الصامتة التي تصفق لمجريات أحداث فرعونية تحت اسم التقدم والحضارة، مما يلزمنا ضرورة التثقيف والتدريب من أجل قدرة التمييز بين الشرور بقبول أهونها والخير باقتفاء أثره ولن يتحقق ذلك إلا بالتدرج واستغلال الفرصة لقطع مسافات نحو الاتجاه الصحيح بدل الجمود وامتهان الكلام وسيلة للانتقاد الهدام والتذمر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "إن اللبيب إذا بدا من جسمه مرضان مختلفان داوى الأخطرا".
ولا يكون ذلك إلا بالتغيير صفة فطرية ومعنى محمودا منطلقا من عدة اعتبارات أولها التواضع والشعور بالنقص والعيب، وذلك بعدم تزكية الأفكار والقناعات مع الاستعداد لمراقبتها وتعديلها. إن الإنسان عالم مستقل ومتميز عن إخوانه من بني البشر، يتغير حسب ظروفه الاجتماعية، وتقبله للأشياء أو رفضه لها يختلف ما بين الطفل إلى المراهق، إلى الكهل وصولا إلى الشيخ، يقول المتنبي:
وأرى الليالي ما طوت من قوتي *** ردت في عظتي وإفهامي.
ينبغي أن يعلم أن عدم التغير لا يعني الثبات، لأن الثبات هو ثبات على الدين لا على الرأي، حتى لا نعطي المتغير صفة الثبات ولا البشري صفة الربانية، ولا نعطي المؤقت صفة الخلود قال الله تعالى "وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" والحق هنا معناه التواصي بالأصول الشرعية، القرآن والسنة دون أن نعتبر أنفسنا معبرين، ناطقين باسم الله وإنما نحن نجتهد. ومتى اعتقد الإنسان أنه وصل إلى الكمال فهو بذلك ينسب لنفسه صفة ربانية "عدم التغير"، تتنافى مع بشريته التي تسعى للوصول إلى الكمال. قد يرى اليوم شيئا لم يكن يراه بالأمس، لكنه يظل مطالبا ببحثه عن الحقيقة وأخذ الحق ممن جاء به لا يضره من أي وعاء خرج.
لا تتلخص مهمة الاستخلاف في الكمال، فالإنسان ليس منزها لكنه يحاول تقليص هامش أخطائه، وتوسيع دائرة خياراته في الأعمال الصالحة حسبما أقامه الله فيه، فلا يعيش وراء دال تسبق دكتورا أو ذال تسبق أستاذا أو ميم تسبق مهندسا. |
ولن يكون هذا التغيير إيجابيا تأثرا بكل صوت جديد مثل ما نشاهد اليوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، شباب يتغيرون وفق كل مؤثر، يتحمسون لكل رأي مما يخلق لديهم ارتباكا. لذلك فتحكيم العقل بعيدا عن العاطفة والانفعال وحده الكفيل بتحقيق ذلك. بعض من القلق المعرفي لا بأس به من خلال طرح تساؤلات والسعي لمعالجتها دون تسرع وتبني آراء معينة لأننا قد نتبنى غيرها في يوم من الأيام مما يؤكد أن التغيير هو الوحيد الثابت، به تتباين درجة كل منا في تقديمه لمصالح على حساب أخرى وارتكابه أدنى المفاسد لاجتناب حصول أقواها تحقيقا للمصلحة العامة وترسيخا لمفهوم الاستخلاف الذي خص الله به الإنسان من دون المخلوقات الأخرى، ومنحه العقل ووضع بين يديه أمانة أبت الجبال حملها وأشفقن منها وحملها الإنسان.
ولا تتلخص مهمة الاستخلاف في الكمال، فالإنسان ليس منزها لكنه يحاول تقليص هامش أخطائه، وتوسيع دائرة خياراته في الأعمال الصالحة حسبما أقامه الله فيه، فلا يعيش وراء دال تسبق دكتورا أو ذال تسبق أستاذا أو ميم تسبق مهندسا، بل يضل قلبه معلقا بالله طامحا لتحقيق الفلاح.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.