شعار قسم مدونات

يوسُفُ أحلامِك

blogs- سورة يوسف

مِنْ أحسن القَصص بدأت الحكاية، ومنها ضرب صاحبُنا موعدًا مع تحقيق أحلامه وطموحاته، وقرَّر خوض طريقٍ شاقٍّ طويل، ولكنَّه كان طريق الطامحين إلى خلود، وعزم أنْ ينسى سنين غفلته وضياعه، وأنْ يضبط بوصلتَه نحو الحُلُم وعقاربَ ساعته دون الرجوع إلى الزمن، ولكنَّه كان يعلم أنَّ العزيمة والإصرار وحدهما لا يكفيان، ولا بُدَّ له من بصيرة وهدى يقتفي أثرهما ويسير على نور، كان لا بُدَّ له من رؤيا، لا ليكون الحالم فحسب، إنّما ليكون الحُلم كذلك، امتزاجٌ لم يكنْ أبدًا للعاديين من الناس، منْ كان خطُ سيرِ حياتهم مستقيما دون أن يلفحه أيُّ اعوجاج أو صعوبات، كان يريد اعتلاء القمة، فراح يقتفي أثر يوسف ومن قبله يعقوب عليهما السلام، كان يبحثُ عن يوسُف أحلامِه.

(أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).. من هذه الرؤيا انطلق الحُلم والحالم، في خضمِّ يأسك وعجزك تراءت أمامك كلُّ الصعوبات تنحني أمامك ساجدة لعزيمتك لقوتك، كلُّ تلك العقبات تفتَّتْ، كلُّ الأماني والنفائس أتتك خاطبةً وُدَّك طالبةً وصلك، ومن فرط فرحتك، أردت أن تصيح وتهلِّلَ مبشرًا بعظيم ما رأيت، مَهْلًا! لا تُفسد رؤياك ببوح أو إفشاء إلا لمن تعلمُ يقينًا أنَّه سيكون سفينك وأشرعتك، كيعقوب ليوسف عليهما السلام، لا كإخوته يكيدون ويمكرون ككلِّ ذي غِلٍّ أو ضغينة، (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا).. كل المصاعب والعقبات ائتمرتْ بك تريدُ قتلَ حُلمك في مهده، تريدُ منك إجهاضه، فلا تُفرِّط به حتى لو كان المخاضُ عسيرًا.

يوسُفُ عليه السلام هو كلُّ جميل كلُّ طموح كلُّ حُلمٍ ألِفته نفسُك فلم ترضَ دونهُ سبيلًا، ونفسُك تلك كيعقوب عليه السلام حافظةٌ على يوسُفَ مُستأمنة، لا تقبلُ أنْ تفرِّط به أبدًا مهما كلَّفها الثمن

(وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ).. وهنا أيقنَ صاحبُنا أنَّ الأحلام إذا ما تأطّرت كانت أقرب لتتحقق مما لو كانت دون أيّ إطار، كان صاحبُنا يعلمُ أنَّ الدعاء عظيم، ولا يُرد القدرُ إلا بدعاء قلب مُخلص مؤمن بالله، فلم يضعف وتذكَّر كم تساءلَ كثيرًا في صغره كيف يصنعُ البؤساء المستحيل؟! كيف بمن يهوي في وادٍ سحيقٍ أن يعتليَ القمم؟! وجد أنَّ سُبل الحياة اليسيرة لا تليق بمن أراد أنْ يخطِب العلياء، وأن يرتاد ركب النصر والتمكين، كان في حياته الكثير الكثير، أكثر مما باح به لأي أحد، لأنَّه تعلَّم أنَّه لن يُفلح إلا من كان بينه وبين الله سرٌّ عظيم.

يوسُفُ عليه السلام هو كلُّ جميل كلُّ طموح كلُّ حُلمٍ ألِفته نفسُك فلم ترضَ دونهُ سبيلًا، ونفسُك تلك كيعقوب عليه السلام حافظةٌ على يوسُفَ مُستأمنة، لا تقبلُ أنْ تفرِّط به أبدًا مهما كلَّفها الثمن، ولكنْ كيف يروقُ ذلك لأبواق الحقد والغِلِّ تنعقُ كراهيةً وكيدًا (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، فكيف لأحلامك أنْ تكون أغلى من ولائك وعبوديتك، أتراك تتطهَّرُ يا هذا! ألا تخشى مُلكنا وسطوتنا؟ إنَّك في ضلال مبين، وإنْ لم ترجع فانتظر المصير (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا).. (وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ).. (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ).. يريدون لشمسك أن تغيب، ولنجمك أن يأفلْ، ولكنَّك لا تحبُّ الآفلين، حتى لو جاؤوا على قميصك بدمٍ كذب، فصبرٌ جميل.

لعلَّ قواكَ خارتْ، ولعلَّك حسبتَ أنَّك ضللْتَ الطريق، وحُلمك النفيس تحسبُ أنَّه أضحى بخسَ الثمن دراهم معدودة، ولا تعلمُ أيَّ بشرى في انتظارك، ولا تعلمُ أنَّه ما أشقاك إلا ليسعدك، (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ ).. فيمكن الله لذلك الحلم ليكون حقيقة جلية يبصرها حتى من أبى، لأنَّك علَّقتَ رجاءَك آمالَك بالله، لأنَّك استمسكت بحبل الله، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ).. رغم ما كان وما سيكون، رغم كلِّ تلك المعاصي والهموم، رغم النوازل والظنون، رغم كلِّ الشهواتِ تراودك عن نفسك لتطيح بك، بنقائك، بزهرةٍ فيك لا تذبل، فتترفَّع عنها مُعلِنًا: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ).. ومهما كانت الزلّات والشهوات والمُلهيات تذكر! (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا).. أعرِضْ أيّها الحالِم وأعرِضْ أيّها الحُلم.

اعلم أنَّك كلَّما اقتربتَ من تحقيقه ازداد بلاؤك، يريدون لك الاستسلام، أن تأتمر بأمرهم حتى يسرقوه منك، (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ).. فهم بدؤوا يوقنون نفاستَه وندرتَه، إنَّه انعتاق الروح، إنَّه السموُّ والرفعة، (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ ).. وحتى لو سمَّوهُ أضغاثَ أحلام فأنتَ صاحب التأويل، أنت من ستنبِّئهم، أنت من اختار الكفَّة الراجحة في سبيل تحقيقه، (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).. ومن كان مع الله فمن عليه، لتتجلَّى لحظةُ الحقيقة وتُوضعَ الموازينُ القسطُ ويصدق التأويل، (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ).. كلُّهم سيشهدون لك ويقرُّون بفضلك، (حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ).. حَصْحَصَ الحقُّ وانتهت البلوى، في الأمسِ بخسوك ثمنك واليوم مكينٌ أمينٌ، صاحب الجاه والسلطان، (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).

لا يموتُ الحلم ولا يتضاءل، بل له اتساعٌ كاتساع الفضاء، لا بداية له ولا نهاية، ليس كأحلام العابثين، بل هو حلم الطامحين إلى الخلود، ليس بالجسد بل بالروح والأثر

واقترب اللقاء، لقاءُ النَّفس بالحُلم، عناقٌ أبديّ، لا فراق بعده إلى الله، صبران جميلان زادُ الطامحين فلا قنوط، فيعقوب عليه السلام، الأب المفجوع، كنفسك في فقدها وضعفها، منفردًا بهمِّك، وحيدًا بمصابك، تندب فجيعتَك، كاظمًا حزنَك، تتجلّد، حتى ابيضَّت عيناك، (وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ).. كانَ حُبّا مرَّتْ طيفُ ذكراه في خلوةٍ ففاضتْ مآقيك دمعًا شوقًا إليه، إذْ لا شكوى إلا الله، (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ).. إنّما لا يأس! تحسًّس حلُمك فإنَّك أوشكتَ أن تبلغ، ولا تقنط من أنْ يروِّح الله عنك ما أنتَ فيه من حزن، الآن ستبصرُ حُلمك، (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا).. وانتهت سنينُك العِجاف، ها هي البشرى تهلُّ، والكون كلُّه ينثني لك احترامًا وإجلالًا: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا).

لا يموتُ الحلم ولا يتضاءل، بل له اتساعٌ كاتساع الفضاء، لا بداية له ولا نهاية، ليس كأحلام العابثين، بل هو حلم الطامحين إلى الخلود، ليس بالجسد بل بالروح والأثر، وُلد معنا ويعيشُ فينا، نضعف نعم؛ نتهاوى وربما نسقط، ولكننا ننهضُ بما تبقى لدينا من يقين وإخلاص، لا نيأس ولا نملّ، في دهاليز العتمة تنير قلوبنا، وفي غياهب الظلمات نسقي قناديلَ عتيقةً مِسكًا لتضيء نورًا وتفوح عطرًا، هذا دأبُ من وهبوا أنفسهم ليحيا من تعلق بحبل الله وحبلهم، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، هكذا أرى الإيمان بمعنى السعادة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.