شعار قسم مدونات

إجهاض الوعي

blogs ثورة

حين تجول في رواية 1984 للكاتب جورج أورويل والتي تصف الدولة الدكتاتورية الأمنية تستوقفك في تضاعيفها جملة بؤرية حيث يعول فيها البطل (ونستون سميث) على ثورة عامة الشعب في إسقاط القبضة الأمنية الحديدية، ولكنه حين يرى مدى الجهل الفاضح وانطلاء حيل الإعلام السخيفة عليهم يقول في ص 84 (لن يثوروا حتى يعوا ولن يعوا إلا بعد ان يثوروا). تبدو هذه المقولة في قمة الجدلية حيث تغدو الثورة أو الوعي سبباً ونتيجة في الوقت نفسه ونعلم أن هذا الأمر مستحيل، إلا أننا بعد أن أمعنّا النظر في حال بلاد الربيع العربي خلال السنوات الست السابقة فسوف يرى أي عاقل هذه الجملة الناصعة قد أصابت كعب أخيل من مجتمعنا العربي.

إن اتخاذ قرار الثورة لا يمكن أن يكون إلا ضرباً من الجنون من قبل الجموع الخائفة المتربصة المسحوقة المهانة الكالّة المالّة في بحثها عن لقمة الخبر والمشي بجانب الحائط، ولا يتطلب الأمر منها سوى لحظة من "شجاعة اليأس" أو تخلي الغريق عن كل أثقال جواهره أمام عنفوان البحر وهياجه، لكن هذا القرار بقدر ما سيكون شجاعاً فسيكون طائشاً أمام السلطات البوليسية في دولنا العربية التي استنفذت كل طاقتها في تفتيت النسيج المجتمعي وتجفيف منابع التلاحم والخير وذلك بتنمية أسباب الفقر الذي يتحول إلى كفر بكل قيمة أصيلة نبيلة متوارثة، وبعد تجويع البطن وحرمانه حتى من التفكير بالطعام تصبح العملية معاكسة أمام الفرج الذي يتم تجويعه ثم إلهابه بعرض شتى أصناف المجون واللذائذ الغريزية الجنسية، كل ذلك ضمن هجوم منظم على كل فضيلة دينية أو حتى أخلاقية ووصمها بالإرهاب والتطرف.

ستكون مهمة الحكومات المخابراتية وهذا المجتمع الدولي مباشرة بعد الثورة أن يسيطر على الأمر من خلال إبقاء الزخم الثوري في حالة اللاوعي وذلك إما باستيعاب الثورة والقضاء عليها بثورة مضادة أو بإردائها في حالة من التقتيل وأنهار الدماء

وأمام هذه الأغلال التي تكبّل المجتمع وتقيّد رأسه فسيغدو كسرها والخروج منها يتطلب أمراً واحداً هو أن تقطع رأسك لكي تتحرر من أصفاد أغلالك وقيودك ثم تسير جسداً بلا رأس لا ترى شيئاً أمامك ولا تعرف أين تسير وتحطم جميع الأشياء من حولك.

ولنتأمل كيف بدأ هذا الربيع العربي وفي تلك الشرارة التي أشعلت الثورات العربية لنرى الاندفاعة العاطفية الصادقة وراء البوعزيزي التونسي الذي أحرق نفسه، وكاد أن يكون شهيداً وسط تعامي الجميع عن خطأ عملية الانتحار – رغم نبل مقصده-وتمّ اتهام من أنكر فعله بشتى الاتهامات ليكون مصير شعوبنا كمصيره ساعين بشكل جماعي لإحراق أنفسنا بدون تبين الهدف الحقيقي والجدوى لمسعانا.

ولنعد إلى ما قاله بطل الرواية فسنرى أن لحظة اتخاذ قرار الثورة لن تكون لحظة وعي للأسف ولحسن الحظ أيضاً، لكن الوعي الحقيقي بحجم الصراع مع الحكومات المستبدة وماهيتها ومن يقف وراءها من المجتمع الدولي بكامله سيكون في المراحل التي ستتبع الثورة بأزمنة كبيرة وسيرتعد هذا المجتمع الدولي من مجرد المطلب الديمقراطي للشعوب لأنه يعلم أن امتلاك القرار المستقل لها سيؤدي من خلال تتالي مفاعيل الأحداث الذاتية إلى أن تعيد الشعوب اكتشاف نفسها وتصل إلى عصب القوة الحقيقي التاريخي لها وهو أن لديها عقيدة روحية إسلامية صلبة ينبثق عنها وينشأ من رؤيتها للكون والانسان والحياة نظام تشريعي متكامل قابل للتطبيق.

وستكون مهمة تلك الحكومات المخابراتية وهذا المجتمع الدولي مباشرة أن يسيطر على الأمر من خلال إبقاء الزخم الثوري في حالة اللاوعي وذلك إما باستيعاب الثورة والقضاء عليها بثورة مضادة كما في مصر وتونس حيث يتم استدراج الإسلام الناعم مقصوص الأظافر للسلطة وإفشال إنجازاته وتشويهه ثم إسقاطه من خلال الدولة العميقة.

سوف يعاد إنتاج أسباب أخرى تؤدي بالأمة إلى تلمس مشروعها الحقيقي الذي حذر منه هنري كيسنجر في بواطن كتابه الأخير (النظام الدولي) حين قال أن أخطر الجماعات الإسلامية هم هؤلاء الذين يمتلكون شكلا وتصورا محدداً لشكل الدولة والمستقبل الذي يريدونه

أو بإردائها في حالة من التقتيل وأنهار الدماء التي لا يصحو منها الجميع حيث يتم استدراج الإسلام الراديكالي وعمل نسخة مشوهة للدولة ذات سلطة وهمية مجتزئة مغالية ليتم اثبات فشل النظرية من خلال سوء التطبيق.

ليتم في النهاية -وبممارسة أعتى صنوف المكر الذي تكاد تزول منه الجبال-الوصول إلى الوعي العكسي المضاد وقد نشعر لحظتها أن الثورة كانت مقصودة من أساسها حين نصل إلى الفكرة التي تحشر في رؤوسنا جميعاً والتي تقول إنه مهما حاولتم وفي أي طريق سرتم سواء بالثورة في شقها الديمقراطي أو الإسلامي الناعم أو الإسلامي المتطرف فلن يجدي الأمر نفعاً وما عليكم سوى البقاء على ما أنتم عليه وأن تحمدوا ربكم على نعمة الأمن والأمان.

ولكن -ولا بد من كلمة ولكن- لا بدّ من كرّة عجيبة أخرى للأمر لا نعرفها، فكما كان الذهول مخيماً على صناع القرار في بادئ الأمر من هذه الأسباب العفوية التي أدت إلى تحويل أمل الشعوب في استعادة زمام أمرها من مجرد خيال إلى حلم قابل للتحقق مع أول خيوط الصبح، فسوف يعاد إنتاج أسباب أخرى تؤدي بالأمة إلى تلمس مشروعها الحقيقي الذي حذر منه هنري كيسنجر في بواطن كتابه الأخير (النظام الدولي) حين قال أن أخطر الجماعات الإسلامية هم هؤلاء الذين يمتلكون شكلا وتصورا محدداً لشكل الدولة والمستقبل الذي يريدونه، وعندها سيحيق مكر الليل والنهار بأهله من حيث لا يعلمون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.