لم تطل هذه الحقبة الزمنية، فمع بداية الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية الأولى بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، انضم إلى مواجهة الإسلام فريقان آخران، فريق محدود التأثير وواضح الأهداف، وفريق آخر أشد ضررا على الإسلام، بحكم اندساسه فيه وتخفيه بردائه، وذلك مع وجود الصراع الأول بقيادة قريش، وأعتقد أن صراع المسلمين مع مشركي قريش وقبائل العرب كان أخف ضررا في الفترة المدنية، يليه في هذا الترتيب صراع المسلمين مع اليهود، وأما صراع المسلمين مع المنافقين كان أشد وطأة وخطرا على الأمة الإسلامية، وهذا ما كان يغر قريشا واليهود بمحاولة اغتيال التجربة الإسلامي لامتلاكهم تسريبات حساسة من عقر دار المسلمين، بالإضافة إلى إثارة النعرات القبلية ومحاولة شق صفوف المسلمين في الداخل، والأمر الجيد في هذا الصراع هو وجود الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد محنك من جهة احتواء الأزمات والقلاقل وقتلها في مهدها، واستقباله للوحي من جهة أخرى، مما ساعد في أخذ الحيطة والحذر من الأفراد المندسة في أصحابه.
التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة الأضرار على الأمة الإسلامية أكثر، فأغلب الصراعات التي تحدثنا عنها زادت اشتعالها بشكل كبير، هناك صراع طائفي بين السنة والشيعة، وبين الشيعة أنفسهم، والسنة أنفسهم، وصراع سياسي وصل إلى درك سحيق، وآخر عرقي، مع ميلاد صراعات جديدة في كل يوم. |
قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظهرت بوادر من الصراع الإسلامي الرومي، لكنه اشتد في الخلافة الراشدة إضافة إلى الصراع الإسلامي مع الفرس، وأنا هنا لا أريد أن أقف على كل حقبة من الزمن بقدر ما أريد أن أوضح خصائص التحديات والأخطار التي واجهت المسلمين.
وما هي إلا فترة وتجد الأمة الإسلامية تواجه صراعا سياسيا وطائفيا ومذهبيا وفلسفيا إضافة إلى الصراع العرقي، كل ذلك على مدار التاريخ الإسلامي منذ عهد الخلافة الراشدة إلى يومنا هذا، كان الصراع السياسي من أوائل الصراعات التي أشعلت شرارة في عهد الخلفاء الراشدين، وامتدت و تجذرت في المجتمع الإسلامي إلى هذا اليوم، كذلك الصراع المذهبي الذي بدأ حين بدأ على شكل اختلافات عادية بين آراء الصحابة الفقهية، ثم تحول الأمر إلى مذاهب أدت إلى التعصب في بعض الأحيان، ولا أظن أنه يمكن لي أن أصف اختلاف الآراء الفقهية سبب صراعا في القرون الأولى، نفس الأمر ينطبق مع بوادر الصراع الفلسفي بظهور المرجئة كرد فعل للخوارج، ومن بعدها المعتزلة، إلا أن الصراع الذي سببه الخوارج بدأ عنيفا، بخلاف المعتزلة الذي بدأ صراعها العنيف متأخرا قليلا، هذا لا يعني أن صراع المسلمين مع المجوس والنصارى توقف في تلك الفترة، بل كان يجري بالتوازي مع الصراعات الداخلية، لكني أعتقد أن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت لم تبلغ من التضعضع والانقسام الداخلي مبلغنا اليوم، ولذلك استمر تصديهم للصراعات الخارجية، واستمرت الفتوحات الإسلامية كذلك.
ومع اتساع رقعة الأراضي الإسلامية ظهرت معضلة أخرى وانضمت إلى المعضلات السابقة، ألا وهي المشكلات العرقية، رغم أن هذه المعضلة أصبحت من أكبر أسباب ضعف الأمة الإسلامية اليوم إلا أنها تسللت إلى المجتمع الإسلامي تسللا خفيا، ومن أبرز الصراعات العرقية صراع الفرس مع العرب، وصراع البربر مع العرب، وصراع العرب مع الأتراك.
وفي قراءتي الشخصية واستنادا إلى أحداث تاريخية حافلة بالتقلبات، فإن الصراعات الداخلية قديما وحديثا أكثر ضررا وتأثيرا على الأمة الإسلامية من الصراعات الخارجية، لا أقيس الأمور بمقدار الدماء التي سالت بقدر ما أقيس على الأضرار المعنوية في المجتمع الإسلامي، كانت الصراعات الداخلية تنخر في تماسك المجتمع الإسلامي بينما كانت معالم الصراعات الخارجية واضحة للجميع، وكانت النزاعات الداخلية تمهيدا لانهزام المسلمين أمام القوى الخارجية، وينجلي ذلك في اجتياح التتار للأراضي الإسلامية المتناحرة، واجتياح الفرنسيين للأندلس في ظل تناحر الدويلات، وصولا إلى تاريخنا المعاصر "الإجهاز على الخلافة العثمانية وتمكين اليهود من فلسطين".
لم يكن ليحدث ذلك كله لولا الصراعات الداخلية، ولو أن التاريخ أكبر من أن ألم به لقلت أنه لا يوجد هزيمة إلا وسببها مشكلة داخلية، فإن كانت قد حدثت في عصر خير البشر وصحابته فحصولها في العصور الأخرى أولى، وليس بالضرورة أن تكون دوافع التهديد الداخلي الخيانة، لا! فالصحابة الذين نزلوا للغنائم في غزوة أحد لم يقصدوا أن يضروا الإسلام "حاشاهم"، لكنهم تسببوا بهزيمة قاتلة بغير قصد، وما كان ليتجرأ خالد رضي الله عنه حينئذ على أن يفعل ما فعل لولا مخالفتهم أمر قائدهم صلى الله عليه وسلم، والأمر أشد إذن في استعانة التتار بالعناصر المسلمة في العصر العباسي، وكذلك سائر أعداء الإسلام حتى يومنا هذا.
أصبح للمسلمين فرصة لنشر الإسلام في ربوع دول العالم أكثر من أي وقت مضى، والحال كما ترون، انشغل المسلمون بأنفسهم قتلا وتكفيرا وتبديعاً وشيطنة وتخويناً، وإساءة للقيم الإسلامية الجميلة، ثم تجد بعد ذلك من يعتقد أننا وصلنا إلى ما وصلنا إليه بسبب المؤامرات الخارجية. |
إذن من يهدد الإسلام في القرن الحادي والعشرين؟!
التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة الأضرار على الأمة الإسلامية أكثر، فأغلب الصراعات التي تحدثنا عنها زادت اشتعالها بشكل كبير، هناك صراع طائفي بين السنة والشيعة، وبين الشيعة أنفسهم، والسنة أنفسهم، وصراع سياسي وصل إلى درك سحيق، وآخر عرقي، مع ميلاد صراعات جديدة في كل يوم، وكلهم ينتسبون إلى الإسلام، ويحرصون على أن يشيطن الطرف الآخر بآيات من القرآن، وأحاديث من السنة، ثم يستحل بذلك دمه وماله وعرضه، والعجيب أن هذا الأمر أصبح متفشيا في الصراعات السياسية، حتى الجرائم السياسية تُرتكب باسم الله وباسم الوطن، فما بالك بالصراعات المذهبية؟!
كان من المفترض اليوم أن يساهم المسلمون في الجهود المتضافرة من قبل القوى العالمية في إحلال السلام، فالعالم اليوم يمر بفترة معاهدات دولية لم يسبق لها مثيل، ولا أدعي أن العداوة الخارجية للإسلام قد انتهت، لن تنتهي ما دامت السموات والأرض، ولم تكن هي الأساس في المشكلة من بداية التجربة الإسلامية، لكنها أصبحت اليوم ذات طابع مختلف من ذي قبل، لقد أصبحت متسترة بالتحركات والمصطلحات السياسية، والقوانين الدولية، فالعداء الخارجي وإن كان سافرا من حيث التوجه إلا أنهم يداهنون المجتمعات والمعاهدات الدولية، وأصبح في المقابل للمسلمين فرصة لنشر الإسلام في ربوع دول العالم أكثر من أي وقت مضى، والحال كما ترون، انشغل المسلمون بأنفسهم قتلا وتكفيرا وتبديعاً وشيطنة وتخويناً، وإساءة للقيم الإسلامية الجميلة، ثم تجد بعد ذلك من يعتقد أننا وصلنا إلى ما وصلنا إليه بسبب المؤامرات الخارجية.
في نهاية المقال أستطيع أن أقول بأن المسلمين هم الخطر الذي يهدد الإسلام في القرن الحادي والعشرين، ولا أحتاج إلى أن أتحدث عن الحل بإسهاب، كل ما عليّ هو أن أذكركم قوله تعالى: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.