تختلف فرصة الخطأ من مكان إلى آخر، والمقصود بفرصته هنا هو وجوده من عدمه، فعند المجتمعات الضعيفة عقليا تقل فرصة وجود الخطأ أو استمرار اكتشافه بسبب إيمانهم بشيء والذي لا يقبل الخطأ في نظرهم، ولهذا فإن أي محاولة لنقد إيمانهم أو معتقدهم أو طريقة تناولهم للقضايا الدينية وإن كان النقد منطقيا سيتم إقصاءه ويُزاحُ الخطأ كاملا نحو مُتْنقدِهِم فلا يبقى منه شيء عندهم.
إن صفة الضعف العقلي عند الفرد أو الجماعة ليس فيها ولا تحمل أي اتهام أو إجحاف، ومن مميزات الضعيفين عقليا الاتكال على رأي المجموعة والاقتناع بما يقتنعون به، تاركين مهمة التفكير لهم فنراهم يمشون مُتَشَيْدِقينَ مطمئنين لما آل له رأي الآخرين. وليس غريبا أن نرى العوام يدافعون عن الشيوخ الذين يدافعون عن دينهم، وليس للعوام حيلة غير ذلك فهم مؤمنون بما آمن الناس ومطمئنون بما اطمأن به الغير.
صلابة الوهم توحي للكثيرين بأنه حقيقة وعليه يقع أيضا كثير من المتعلمين ضحية ذلك، الذين يحاولون ممارسة أعمال عقلية منطلقين من قناعاتهم البدائية التي نشأوا عليها |
في الواقع هذه الصفة لا تعتبر عيبا في ذاتها ولا هي شيء جديد على مستوى التاريخ الإنساني، فمنذ بداية تَكَوُّنِ المجموعات البشرية قد ترك البسطاء للحكماء حق الوعظ والتقويم، وهذا شيء مشترك بين الإنسان القديم والمعاصر، كل منهما ترك مهمة التفكير وتفرغ لمساندة من يفكرون مكانه وقد يصل لحد التضحية بنفسه من أجلهم.
صلابة الوهم توحي للكثيرين بأنه حقيقة وعليه يقع أيضا كثير من المتعلمين ضحية ذلك، الذين يحاولون ممارسة أعمال عقلية منطلقين من قناعاتهم البدائية التي نشأوا عليها، فتجد الواحد منهم يَكِدُّ باحثا ومجتهدا يفرغ الكتب ويملأ الورق في سبيل الإتيان بدليل مريح لقضياه الدينية التي تشغله، ولا شك أن ليس في ذلك شوهة أو تقصير، لكن المشكلة في عدم وعيه بانطلاقته الفعلية نحو البحث فهو في الأصل لم يختلف وقد امتلأ رأسه وَهْمًا صلباً ثم انقلب على الكتب يحاول تبرير ما استنتجه الأولون ولو كان أمرا موغلا في الخطأ، وهو يعتقد أنه يَعِي ما يفعل وهو غير واعِ بالتأكيد. وعليه فهو يزيح الخطأ أيضا كما يفعل العوام لكن بمجهود عقلي يرضيه ويرضي مريديه.
مثالا، الدعاة والمشايخ يتعرضون لهذه الانطلاقة الخاطئة ويبدأون من حيث انتهى الآخرون، دون النظر فيما أخطأ الأول أو نسي أو تناقض بحسن نية أو بسوءها، وإذا نظروا فإنهم يبدأون بالتلفيق والجرح والتعديل والتفسير حسب الحاجة أو المرور دون النظر، فهم يباركون أي شيء يدعم أفكارهم ومكاناتهم ولو اضطروا إلى التشجيع على الرداءة، وبدون البت في النيات فلن نتهم أحدا ولا نزكي، وربما كان هؤلاء الدعاة يفعلون ذلك عن حسن نية، لكنهم يخطئون لأنهم واهمون، وهمهم صلب يعتقدون أنه حقيقة لا غبار عليها ولا يمكن أن تتساقط يوما.
يُستبعد في القريب العاجل أن تَكتسب تلك المجتمعات أدوات تكسير الوهم وأدوات إعادة تفعيل الفكر والحياة، وإلى ذلك الحين يبقى المجتمع يعادي سيرورة الحضارة والتقدم، ويبقى الوهم صلبا والخطأ حقيقة |
المشكلة الأساسية لدى هؤلاء أن ما يرونه ثوابتا لا يمكن بأي وجه أن يتم نقدها أو نقضها، ثوابت اجتماعية ودينية وأخلاقية، الحدود وحقوق المرأة والتكفير والإقصاء وغير ذلك، وليس من المعقول منطقيا أن يُمكن التجديد دون إعادة النظر في الثوابت، ولو كان كذلك لما رأينا آينشتاين يقلب الطاولة على ثوابت نيوتن ولا لوثر على الكنيسة الكاثوليكية.
الخطأ في مجتمع واعٍ له أثر إيجابي طويل أكبر بكثير من سلبيته اللحظية، والوقوع فيه يضمن إعادة النظر في أشياء بعينها ومن ثم إصلاحها، فنجد أن الخطأ في المجتمع الواعي له شأن حقيقي في الدفع بالحضارة قُدُمًا، إلا أن الخطأ في المجتمع الغير واعي والضعيف عقليا لا يُستفاد منه، بل في أحيان كثيرة يبرر له إن كان يمس المعتقد أو المصالح.
إن اشتراك العَامِّي والمتعلم في قضية تصديق الوهم وإحالة الخطأ إلى المقصلة مشكلة صعبة، ولحد الآن ينجح الوهم في إعادة تدوير نفسه عن طريق المدافعين عنه من هؤلاء، ويُستبعد في القريب العاجل أن تَكتسب تلك المجتمعات أدوات تكسيره وأدوات إعادة تفعيل الفكر والحياة، وإلى ذلك الحين يبقى المجتمع يعادي سيرورة الحضارة والتقدم، ويبقى الوهم صلبا والخطأ حقيقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.