صديقة أخبرتني يوما أنّها اضطرّت إلى رفض خطيب مشرقي لأنّ قوانين بلده لا تسمح لها بأخذ الجنسية ولا تسمح لأبنائها من بعد بحمل جنسية البلدين وهي لا تريد لنسلها أن يظلّ محجوزا في بلد الأب أو الأم دون وجه حق. |
كنت أناقش مع صديق مشكلات الحرب واللجوء وآثاره على تماسك النسيج الاجتماعي ملقيا باللّوم على الأنظمة التي أوردتنا المهالك، لنعلم أن جرائر القرون الماضية كثيرا ما يدفع ثمنها من لم يقترفوها فينوء الأحفاد بعبء مثالب الأجداد مصداقا للمثل الجزائري "لي داروها الوالدين تحصل في الذرية" (ما فعله الوالدان تدفع ثمنه الذرية).
صديقي التمس للأجداد أعذارا يراها تزيح بعض الثقل عن كواهلهم، فقد كانوا أمّيين وفقراء لا يملكون نقدا ومحتلّين لا يملكون حلّا ولا عقدا، لكنّه صمت ولم يحرْ تبريرا حين قصّ عليّ قصّته مع فتاة الأحلام التي ضيّعها بسبب الجيوبوليتيك وحسابات الأنظمة وحتمية الجغرافيا.
عشق الصديق فتاة غزاوية منذ سنوات، جمعتهما التكنولوجيا وغرف الدردشة ثم كاميرات الحواسيب فكانا يقضيان الساعات الطّوال حتّى ألفا بعضهما وكبرت أحلامهما فتجاوزت العالم الافتراضي ليقرّر زيارتها في غزّة بعد نهاية العدوان الصهيوني عليها في صيف 2014، حضّر جواز السفر وتذكرة الطائرة وأعدّ العدّة رفقة والدته من أجل دخول المدينة المحاصرة.
يقول: "يظنّ العالم أنّ الحصار يؤذي الفلسطينيين فقط، والموت يلاحقهم وحدهم لكنّ الحقيقة أفظع والمآل أشنع، لقد وقفت على المأساة وقوف الكافر على جمر الجحيم، على معبر رفح مكثت أسبوعين مع والدتي المريضة ننتظر المرور ولم ندخل، كنت أرى وجه حبيبتي من بعيد ولا أستطيع تجاوز البوابة لأقترب منها، مرّت الأيام ثقيلة وأنا بين نارين، نار الحب المتأججة في صدري ونار الحنق على الأنظمة الظالمة، وفي النهاية وجدت نفسي بين خيارين؛ خسارة والدتي التي تسوء صحتها كل يوم أو خسارة الفتاة التي أحببت والعودة دون رجعة، في النهاية فضلت خسارتها وقفلت عائدا أجرّ أذيال الخيبة لأنّي تيقنت من أنّي دخلت حربا تفوق قدراتي، سايكس بيكو حرمني من الحب"، ولنتجاوز تفاصيل حياة الصديق لأنّ أحسنها يدمي الفؤاد..
قصّة الصديق أعادتني إلى حكايات أخرى سمعتها وقرأت عنها، عن عشّاق قضى سايكس بيكو على أحلامهم، عن قلوب أدمتها أسلاك الحدود، عن مشاعر ذبحت على بوّابات المعابر، عن عواطف اغتالها قنصل في سفارة أو جندي في معبر أو جمركي في مخفر، عن الذين وضعت خارطة الجغرافيا العربية نهايات لطموحاتهم.
صديقة أخرى أخبرتني يوما أنّها اضطرّت إلى رفض خطيب مشرقي لأنّ قوانين بلده لا تسمح لها بأخذ الجنسية ولا تسمح لأبنائها من بعد بحمل جنسية البلدين وهي لا تريد لنسلها أن يظلّ محجوزا في بلد الأب أو الأم دون وجه حق.
أكاد أجزم أنّ من وضع خارطة العالم العربي وصاغ أولويات الجيوبوليتيك فيها، فعل ذلك متعمّدا تفتيت البناء المجتمعي لأمّة معيار قوّتها أن تكون كالبنيان ليُجمِل هزيمتنا في السياسة والعاطفة الإنسانية معا وهكذا ورثنا عن سايكس بيكو كلّ ألوان الهزائم. |
في الجامعة اشتكت لنا أستاذة سورية وهي تمضغ حسرتها من جور القوانين العربية من مخلفات سايكس بيكو لأنّ أبناءها من زوجها الجزائري لم يستطيعوا نيل الجنسية السورية في حين حرمت هي من جنسية البلد الذي أفنت زهرة عمرها مدرّسة في كلّياته ومعاهده ولكم أن تتخيّلوا حجم الاغتراب الذي تشعر به حين تحتاج خدمة بيروقراطية.
في بلد خليجي منعت أسرة ابنتها من الزواج برجل من "البدون" لأنّه حسب القانون غير منتمي ولا يحوز الجنسية، تقول الفتاة: "منعني القانون وتقاليد القبيلة من الزواج لأسباب تافهة، الإسلام اشترط الدين والخلق وعائلتي فضّلت جاهلية الفكر على يسر الإسلام ودولتي قدّمت الوثيقة الإدارية على الميثاق الغليظ!".
أتساءل كم من أسرة شتّتها سايكس البريطاني وكم من عائلة فرّق شملها بيكو الفرنسي، وكم من حبّ ذبحته سكاكين حكام الانتداب، وتقاليد العشائر من ورائها، تلك العشائر التي آمنت أنّ لكلّ واحدة منها دولة "وويل لمن أراد أن يجعل من كلّ قبيلة دولة" كما قال جبران خليل.
بعد كلّ ما رأينا وسمعنا أكاد أجزم أنّ من وضع خارطة العالم العربي وصاغ أولويات الجيوبوليتيك في أوطاننا قد فعل ذلك متعمّدا تفتيت البناء المجتمعي لأمّة معيار قوّتها أن تكون كالبنيان المرصوص ليُجمِل هزيمتنا في السياسة والعاطفة الإنسانية معا وهكذا ورثنا عن سايكس بيكو كلّ ألوان الهزائم في الجغرافيا وفي الوجدان، في الحرب والحب، على أرض البسيطة وعلى مساحات الأفئدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.