شعار قسم مدونات

بين الشك واليقين.. أين تجدٌك

blogs - pray

حدثتني نفسي المتشككة قبل أن أكتب عن المظاليم الستة وغيرهم من المقهورين وأصحاب البلوى وقالت لي ما الجدوى من الكتابة؟ وقد صدر الحكم، وقضي الأمر، وأغلقت القضية؟ ما الفائدة من سطورك وكلماتك والمعتقلات مكتظة بالآلاف من المظلومين؟ لماذا تكتب واليأس قد وضع أحماله وخيَّم في النفوس؟ ألا ترى أنه ما بين عشِيَّة وضحاها تؤخذ الأرواح، وتُقضى الآجال بلا جريرة أو ذنب إلا أن قالوا ربنا الله؟، ألا تنظر للأرامل والمغيبات من نساء المسلمين؟ ألا تسمع أُذنيك آهات اليتامى من أبناء الشهداء ومن يتم تصفيتهم يومياً؟ هكذا بادرتني نفسي بأسالتها؟؟؟

فزجرتها بيقين ثابت، وقلت ويحك يا نفس.. منذ متى والآجال بيد بشر؟ ومنذ متى والأعمار تُقضى بجرةِ قلم؟؟ هل من أحد يمنع الموت أو يهب الحياة غير الله؟ ألم نقرأ ونحفظ ونردد قوله تعالى "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَل فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" ويحك يا نفس.. أليست قلوب العباد كل العباد بين إِصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبُها كيف يشاء بحكمته؟ سبحانه يصرِّف الأمور، وبيده تجري المقادير، فهو سبحانه كل يوم هو في شأن، يرفع أقواماً ويخفض أخرين وهو على كل شيء قدير. أين أنتي من قول الله عز وجل "وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ".؟

أول مراتب اليقين معرفة الله والتوكل عليه في صغير الأمر وكبيره واليقين بما لك عنده، فإذا ما تم لك ذلك، أصبحت بِحق جندي من جنود الله، يصنع الله لك المعجزات ويكسر بك الخوارق من العادات.

فقد جرت حكمته سبحانه أن يكون الابتلاء سُنَّةً من سُننه يختبر بها قوة الإيمان وضعفه، ويمتحن بها ثبات القلب وتقلُّبه، ليحيي من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وحتى لا يكون للناس على الله حجة "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" وحال المؤمن في الابتلاء ليس كحال غيره، فهو ثابت القلب، مطمئن الفؤاد، يدرك أن قدر الله كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ولا يكون ذلك لأحد إلا للمؤمن، فهو يتقلب في حمد الله وشكره، وتسليمه لقضائه وقدرة، قلبُه مُسلِّم، ولسانه مسبِّح، وبدنه صابر محتسب، ووجهه على الدوام مستبشر، لأنه يرى بعين قلبه ما لا يراه غيره، فهو يدرك جيداً أن العقبي دوماً تكون للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وعلى قدر الإيمان في القلب يظهر السلوك وتتضح الأفعال.

لذا فلتعلم يا أخي وفقني الله وإياك أن هناك فارق كبير بين الشك واليقين كما بين السماء والأرض، والحَكمُ في ذلك الأمر يكون لقلبك كيف تجده في النوازل والمُلِمَّات؟ وأين يكون تعلُقه وقت المحن والكُروبات؟ هل يُسَلِّمُ لله ما أراد؟ أم يتزعزع ويجادل في الشدة والرخاء؟، وعلى كل حال فلتعلم جيداً يا أخي أن أول مراتب اليقين معرفة الله والتوكل عليه في صغير الأمر وكبيره واليقين بما لك عنده، فإذا ما تم لك ذلك، أصبحت بِحق جندي من جنود الله، يصنع الله لك المعجزات ويكسر بك الخوارق من العادات، فإذا بحركاتك وسكناتك لله أولاً ثم للحق، وحينها سَيكسِرُ الله لك طلاسم العقل، ويفك بك سلاسل الكون، ويحطم من أجلك أصنام المادة، ويجعلك تُملي على العالم إرادته سبحانه، فإذا بهذا الكون مطيعٌ خاضع، وإذا بك أنت متواضع خاشع، يُحرَّك الله بك تيار الحياة ويُغيَّر بيقينك وجه التاريخ، ويُرغم الكون كله على أن يسير في مسيرتك.

ألم تسمع بخبر سيدنا بن أبي وقاص حين عزم على فتح مدائن فارس، فحال نهر دجلة بالعراق دون الوصول للمدائن البيضاء، وكانت السنة كثيرة المدود، ودجلة تقذِفُ بالزبد، فجمع سعد الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: "ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم" فقالوا جميعا: "عزَم الله لنا ولك على الرشد، فافعل" فندب الناس الى العبور، وأذِن لهم في الاقتحام، وقال: "قولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه، وليظهرن دينه، وليهزمن عدوه، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وتلاحق الناس في دجلة، وهم يتحدثون كما يتحدثون في البر، وطبقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطئ شيء. هكذا يُصنع اليقين .

ألا أُخبرك بنبأ سيدنا طارق بن زياد حين نزل بالأندلس، والبحر ورائه والعدو أمامه، والمستقبل رهيب، والطريق مظلم، والأرض كفة حابل، والعدد زهيد والمدد بعيد، فسخر بأشباح المادة المخيفة، وعاند العقل، وأمر بإحراق السفن التي ترجع به الى بلاده، وعزم على الفتح وأيقن بالنصر، فهزم العدو، وملك الجزيرة الخضراء للمسلمين.

أفمن يملك يقيناً كهذا يجوز له أن يخشى من قاضٍ مأفون، أو ظالم مفتون، أو بلطجي مأجور، أو منقلب خائن، أنكون إخوان محمد -صلى الله عليه وسلم- ويعرف اليأس طريق قلوبنا!

ألا فلأُخبرك بالعجب العُجاب أراد سيدنا عقبة بن نافع أن يتخذ مدينة في افريقية، يكون بها عسكر المسلمين وأهلهم وأموالهم ليأمنوا من ثورة تكون من أهل البلاد، فقصد موضع القيروان، وكانت وحلة مشتبكة، بها من أنواع الحيوان من السباع والحيات وغير ذلك، فدعا الله وكان مستجاب الدعوة ثم نادى: أيتها الحيات والسباع، إنّا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارحلوا عنا، فإنا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه، فنظر الناس ذلك اليوم فإذا بالدواب تحمل أولادها، والأسود تحمل أشبالها والحيات تخرج من جحورها وتنتقل فرآه كثير من البربر فأسلموا .هكذا يكون اليقين .

يقول سيدنا أبو الحسن الندوي: إن العالم كله مدينة الأوهام، والمؤمن وحده هو صاحب يقين لا يزول، وعقيدة لا تتحول، وهو في يقينه في عالم الأوهام، كمصباح الراهب في الغابة المظلمة، ومنارة النور في بحر الظلمات، والجزيرة التي يأوي إليها اليائسون، والطود الذي لا تزحزحه السيول، ولا تزلزله العواصف وقد يتمسك بيقينه، ولا يوافقه على ذلك أحد، ولا يصدقه أحد، فلا تخور عزيمته، ولا تلين عريكته، ولا يرتاب ولا يتلدد، والناس بين معارض ومنتقد، ومطيع كاره، أو مخالف معتزل، وهو لا يحفل بذلك، ولا يأبه له، ويمضي كالسيف، حتى يهزم يقينه ألف جند من الشك، وينقشع سحاب الأوهام، ويظهر يقينه مثل فلق الصبح.

أفمن يملك يقيناً كهذا يجوز له أن يخشى من قاضٍ مأفون، أو ظالم مفتون، أو بلطجي مأجور، أو منقلب خائن، أنكون إخوان محمد -صلى الله عليه وسلم- ويعرف اليأس طريق قلوبنا وهو القائل "ما يصيب المسلم من نصبٍ، ولا وصبٍ، ولا همٍّ ولا حزنٍ ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه". يا إخوة تفاءلوا وأبشروا وأملوا وانتظروا بيقين ساعة الفرج وما هي منكم ببعيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.