شعار قسم مدونات

الوسطيّة.. ترياق الإرهاب

blogs قراءة القرأن

قد يُدهشك اتّزانُ لاعبي السّيرك فوق الحِبال، وقد يُعجبك توازُن أبطال لاعبي القوى حال قفزهم بالعِصيِّ الطويلةِ المَرنةِ المُسمّاة بالزّانات، وقد تُصاب بلَوْثة عند معاينتك لهؤلاء المخابيل الذين يتسلّقون الأبراج ويَرتقون سفوحَ الجبال الشاهقات دون أن تذِّل لهم قدم أو يُكسَر لهم عنق؛ ولكن الأعلى كعبا والأطول يداً مِن هؤلاء وأولئك، ويَستحقّون عن جدارة وسام الاستحقاق وخالص الدعوات، هم أرباب الوسطيّة الذين يُوسَمُون بالتوازن الفكري والنفسي والسلوكي؛ حيث لا شَطَط ولا غُلوّ ولا جُنوح في رأي أو اجتهاد، ومعه على ذات الطاولة لا تَساهُل ولا تَرخُّص ولا مُيوعَة في الثوابتِ والقيَمِ وأُسُس الاعتقاد.

وقد فصَّل المُربِّي والمُفكِّر (عبد الكريم بكار) في صفات أهل التوازن ومُحدِّدات أرباب الوسَطيّة فقال؛ "هُم مَن يُريدون العيْش في رغد ورفاهية ولكنْ دون نسيانهم العمَل والمُجاهدَة للآخِرة، وهم المَهمومون بالحفاظ على كيانهم ورعاية مصالحهم ولكنْ دون إهمال واجبهم تجاه عالَمهم، وهُم مَن يُحبِّذون الاختلاف والإفلات مِن قبضة الجمود ولكنْ ليس إلى حدِّ التشتُّت وذهاب الرِّيح، وهم الجادُّون والسَّاعُون في امتلاك الوسائل الحياتيّة الحديثة ولكنْ ليس على حساب أهدافهم الكبيرة".

وفي هذا يُروَي أنَّ تاجرا أرسل ابنَه لكي يتعلَّم سرَّ السعادة لدى حكيم، فأعطاه الحكيمُ ملعقةً صغيرةً مليئةً بالزيت، وأمره أن يتجوّل في ربوع قصره الفخم لساعتيْن مُمسِكا بالملعقة ودون أن يَنسكب زيتُها، وحين عاد سأله الحكيم عن رأيه في السجّاد الفاخر والحديقة الجميلة والمكتبة الفخمة، فارتبك الفتى واعترف بأنه ركَّز كلَّ همِّه في ملعقة الزيت حرصا على عدم انسكاب زيتها وبالتالي لم يرَ شيئا مِن ذلك كلِّه، فأمره الحكيم بالتجوّل مرّة أخرى وعلى ذات الشّرط، فانتبه هذه المَرّة لكلِّ التفاصيل الجميلة بالقصر، ولكنّه اكتشف بعد جولته أنَّ الزيتَ قد انسكب، وهنا كانت الحكمة والسرّ الذي لقّنه إيّاه الحكيم…التوازُن سرُّ السعادة. 

أُمّة الوسَطيّة والخيْريّة في حاجة لمزيد من تلك الشموس الساطعة والنّجوم الزاهرة والقامات السامقة، التي تجمع بين ثبات القلب ورشادة العقل، وتضيف إلى الفهم النظري استشراف الواقع، وتَجمَع إلى الحماس جلَدًا وإلى الإدراك موازَنة

"خيرُ الأمور الوسَط" هذا ما قاله شيخُ الإسلام الثاني المعروف بابن القيِّم، والوسَط هو الخيار الأجْود كما فسّره (ابن كثير) في الآية الكريمة "وكذلِك جعَلْناكُم أمَّةً وسَطا"، والتي زادها صاحبُ الظّلال تفسيرا فقال بأنّها أُمّةٌ وسَطٌ في التصوّر والاعتقاد ووسَطٌ في التفكير والشّعور ووسَطٌ في الارتباط والعلاقات ووسَطٌ في المكان أيضا.

والوسطيَّة هي نِتاج النظرة الشامِلة للحياة، والفِكرة العادِلة المتجرِّدة للحقّ، والمُزَاوَجة بين العقل والعاطفة، والمؤاخاة بين الآخَر والذات، والتناغُم بين الحريّة والمسئوليّة، والقفْز فوق أسوار التفريط والإفراط، والقدْرة على الموازنة التي قِيل أنّها "أُمّ العلوم"، فضلا عن كونها اللحظة الواحدة التي تجمع بين المرونة والصرامة وبين الانفتاح والتحدُّد وبين شمولية الرؤية وواقعية القرار على حدِّ تعبير المؤرِّخ العراقي (عماد الدين خليل).

وإذا كان فقْدان التوازن العصبي أو العضلي مَردُوده مَحدودٌ في دائرة الأشخاص، وآثاره لا تتعدَّى الجروح أو الكسور أو الكدمات، ويُمكن تدارُكها والتغلُّب عليها بمَزيد مِن الدّربة والمِران مع التكثيف في تدابير السلامة واحتياطات الأمان؛ فإنَّ فقدان التوازن الفكري والخروج مِن إطار الوسطيّة يتخطَّى بمآلاته حدودَ الأفراد – الذين يفقدون أمانَهم النفسي والحياتي- ليهزّ أركان المجتمع برُمَّته؛ لأنّه يؤسِّس لِبيئةٍ يغلب عليها الاحتقانُ والشِّقاق ويَستشْرِي فيها العُنف والاحْتراب، علاوة على تفاقُم تلك الآثار وذلك المَردود حين نكتشف أنَّ الفِكاك مِن تلك العواقب والمآلات يَحتاج لسنوات وسنوات مِن التربية والتعليم والمُراجعة والتأهيل والحوار والجدال… فنقْض الأفكار أشدّ مِن هدْم الجبال الراسيات، إذْ إنَّ مفهوم التغيير بالتربية يَقتضي الغوص في الجذور، ويتطلَّب الولوج إلى خزائن الشعور والقناعات والأفكار التي تمسك بتلابيب السّلوك.

نماذج السَّاسة والمثقَّفين والشيوخ الضاربِين بسهْم في مضمار تلك الوسطيّة يُشار لهم بالبنان، وحَريٌّ بنا أن نرفعهم فوق الأعناق؛ وذلك لقيمتهم في الوزْن ونُدْرتهم في العدد وفاعليّتهم في التأثير، إذْ كانوا أشبه ما يكون بالتِّبر للثروة والملح للطعام والذّخيرة للسّلاح…وذلك على اعتبار أنّ أفضلَ حبّات العقد واسطتُه، وأنّ الوسطَ هو مركز القوّة ورمز الصدارة ونقطة الاتحاد.

مِن هؤلاء النُّجباء المبرَّزين في ذلك الميدان؛ داعية القرن العشرين وصاحب الفيوضات القرآنية وأستاذ الإخلاص الذي طبَّقَتْ شهرتُه الآفاق وسار بحديثه الرّكبان ألَا وهو الشيخ (محمد متولي الشعراوي)، إضافة إلى فقيه عصرِه الشيخ (يوسف القرضاوي) الذي صدَق فيه المثَل القائل "بلَغ في العِلْم أَطْوَرَيْه" فكان ذو عِلمٍ شرعي غزير وباعٍ فقهي عريض وفِكرٍ حياتي مُستنِير.

 

وزِدْ عليهما نادرَة زمانِه شيخنا (محمّد الغزالي)؛ الذي وازَن بين الدّين والحياة، وجمَع بين العِلْم الشرعيّ والثّقافة المعاصِرة؛ فخاض حرْبا ضَروسا مِن خلال محاضراته وكتُبه ومناظراته لدحْر الغلوّ والسطحيّة في قضية التديّن، وناله مِن الهجوم على شخصه ومصادَرة كتُبه الكثير، حتى وافتْه المنيّة واحتضَنه ثرى البقيع مع الأطهار مِن الصحابة والتابعين، فكان مِمَّن عناهم (ابن دريْد) الملقَّب بأشْعر العلماء وأعْلم الشعراء فقال:

"والنَّاسُ ألْفٌ مِنْهمُ كواحدٍ .. وواحدٌ كالألْفِ إنْ أَمْرٌ عَنَا"

إنَّ التوازنَ المقصود والوسطيّةَ المنشودة، ليستْ توفيقا بين حقٍّ وباطل أو مزْجا للماءِ بالخمر أو خلْطا لشرْق بغرْب، ولكنَّها تمايُزٌ للحقّ بين باطِلَيْن وبزوغٌ للنُّور بين ظلامَيْن وميلادٌ للفضيلة بين رذيلتيْن ومِيزان للأمْن بين متصارِعَيْن، وفي بعض الأحايِين تكون أَخْيَر الخيْرَيْن

أُمّة الوسَطيّة والخيْريّة في حاجة لمزيد من تلك الشموس الساطعة والنّجوم الزاهرة والقامات السامقة، التي تجمع بين ثبات القلب ورشادة العقل، وتضيف إلى الفهم النظري استشراف الواقع، وتَجمَع إلى الحماس جلَدًا وإلى الإدراك موازَنة، لتضع أُسُسا للتربية بالنّموذج والتّأسِّي بالقدْوة، ولِتأخذ بيد أمّتنا إلى رحابة وسماحة وشموليّة إسلامنا العظيم؛ فتصبح دنيانا مزرعة للآخرة لا قبرا لها، وتصير آخرتُنا حصادا جَنِيًّا لا قفْرًا ووَحشةً، وننأى بذلك عن تفريط اليهود الذين عبدوا الدنيا وعن إفراط النصارى الذين ابتدعوا الرهبانية.

وجَرْيًا على نظرية الأوساط الأفلاطونية التي تقول بأنّ الفضيلة وسَط بين رذيلتيْن، حيث تأتي فضيلة الكرَم وسطا بين رذيلتيْ البُخل والسَّفَه، وتأتي فضيلة الشجاعة وسَطا بين رذيلتيْ الجُبن والتهوّر، وتأتي فضيلة الحياء وسطا بين رذيلتيْ الخجَل والوَقاحة؛ فإنَّ التوازنَ المقصود والوسطيّةَ المنشودة، ليستْ توفيقا بين حقٍّ وباطل أو مزْجا للماءِ بالخمر أو خلْطا لشرْق بغرْب، ولكنَّها تمايُزٌ للحقّ بين باطِلَيْن وبزوغٌ للنُّور بين ظلامَيْن وميلادٌ للفضيلة بين رذيلتيْن ومِيزان للأمْن بين متصارِعَيْن، وفي بعض الأحايِين تكون أَخْيَر الخيْرَيْن وأَصْلح الصَّلاحَيْن وأَنْفع النَّفْعَيْن…

وهو خلاصة ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما-الذي قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"يا عبدَ الله ألم أُخبَر أنّك تصوم النهار وتقوم الليل" فقلتُ: بلى يا رسول الله. قال: "فلا تفعل، صُم وأَفطِر، وقُم ونَم، فإنَّ لجسدك عليك حقّا، وإنّ لعيْنك عليك حقّا، وإنّ لزوجك عليك حقّا، وإنّ لزوْرك عليك حقّا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.