سقوطك يزداد بمقدار الوقت المضاف، إن لم يكن أكثر. عندها تمشي في الناس تتغشى وجهك ظلمة لا يلمح معالمها إلا من ظل واقفا -إنها ظلمة الساقطين بلا شك سمة في وجهك لا تنمحي يدركها من كان حولك بلا عناء.. |
هل كان محمد فهمي طبيب نفسه كما قال أجدادي في تونس؟ وهل عزّ نفسه؟ وهل يمكن له أن يصيبها بعد اليوم أي أن يجدها توقظه من غفلة وتنبهه من السقوط؟ يحضرني هنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا عن هذه الأسئلة تعس عبد الدرهم تعس عبدالدينار.. تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش.. نعم حتما لن ينتقش فهمي بعد اليوم، وسوف لن يصل إلى موقع عزيز مصر، ولن يكون على خزائنها بعد عملية الشراء بأبخس الأثمان، فلا هو بالحفيظ ولا هو بالأمين، وقد هانت عليه نفسه وأخلاقيات مهنته ورضي أن يكون شاهد زور وناكرا للجميل، ولن يكون إلى جانبه شُراتُه من المتطاولين في البنيان، وقد انكشف أمرهم فتلك عادة النخاسين يبرؤون من العبيد حال الانكشاف ويقدمونهم قرابين بأبخس مما كان يتصور العبد.
يخيل للعبد أنه ذا قيمة في نفس سيده ويصنع من وهمه عالما من العز يفتقده في واقع الحال، فيرى نفسه في منامه سيدا يأمر وينهى وربما رأى أنه ينادم سيده الحقيقي، وربما راودته نفسه أن يتمنع بعض الوقت عن جلسة منادمة يفترض أن سيده يدعوه إليها ظنا منه أنه سيتذلل إليه ويرجوه ألا يضيع عليه شرف المنادمة، لكنه ينتبه على أنه لا سيّد في منامه يدعوه للمنادمة، ولا امرأة السيّد تتهيأ له ولا أبواب تغلق دونه طمعا فيه، وأن كل الشهود من أهله ومن غير أهله تنشر سقوطه في جب الخيانة والنكران.
في رواية برج الرومي أبواب الموت، وهي أول رواية تونسية عن التعذيب في سجون النظام المخلوع يتحدث بطل الرواية عن فضيحة السقوط في السجن، ويكشف مدى استهجان السجناء حتى ممن سقطوا في خدمة الحاكم لهذا السقوط ومن أولئك المساجين الذين لم يعرفوا للقيم والأخلاق معنى، لكن السقوط عندهم محرم وعار، يقول فخر الدين بطل الرواية يحدث نفسه "إذا سقطت قد تنعم قليلا برضا أبي المغاليق. يعطونك رغيفا مضافا خلاف بقية المساجين الذين يعيشون على رغيف واحد يوميا، قد يضاف لك بعض الوقت عند الخروج إلى الفسحة اليومية، لكن سقوطك يزداد بمقدار الوقت المضاف، إن لم يكن أكثر. عندها تمشي في الناس تتغشى وجهك ظلمة لا يلمح معالمها إلا من ظل واقفا -إنها ظلمة الساقطين بلا شك سمة في وجهك لا تنمحي يدركها من كان حولك بلا عناء.. حدث فخر الدين نفسه فأسرعت إليه صورة الساقط في السجن ليلا يمشي بين السجناء لا يسمع إلا همسهم: "لقد باع نفسه.. جاع فأكل من إليتيه.. هذا الذي يذكر أسراركم ويعجل بها إلى ربه لعله يرضى .. ساقط قواد، واصل فخر الدين الحديث إلى نفسه عن الساقطين كأنه استلذ النجوى وقد خلا المكان إلا منهما.
تصلك همساتهم آناء الليل وأطراف النهار، قد لا تأبه لهم إذا استحكم منك السقوط وتخز همساتهم ضميرك في بداية السقوط، فتنهض إذا اتخذت كلامهم وراءك ظهريا فلن ترحم فهؤلاء رغم فدامة أكثرهم ورغم الأغلال التي عليهم، ورغم طوْل أبي المغاليق، إلا أن بعضا منهم يعمد إلى الساقط فيهم فيشوه وجهه بجرح لا يندمل إذ تغمس موسى الحلاقة في الثوم. وفي السجن لا تشوه إلا وجوه الساقطين. لن ينفعك أبو المغاليق – ولو أخرجك- من السجن لن ينفعك إلا الفرار من السقوط".
هم راودوه ولم يستغفروا وما احتاجوا إلى سكاكين ولا نسوة يشركنهن في الجريمة، فهم لا يمشون على استحياء وإنما يجاهرون بما لا يرونه عندهم منكرا من القول ولا زورا فذلك منطقي ومعقول عندهم ما داموا لا يعرفون حرية الصحافة كما شهد شاهد من أهلهم. |
هل ما زال وقت لمحمد فهمي أن يفر من السقوط؟ حتما لا! فقد سبق السيف العذل كما تقول العرب وولات حين مندم إن كان هناك مجال للندم، ولا أظن فالنفس غارقة في وهم الدراهم المعدودة التي قبضها وادعى أنها قرض لا ندري إن كان قرضا حسنا أو سيئا، فصاحبنا لم يكشف عن شروط العقد بينه وبين نخُاسه لكننا وقد تأكد لنا أنه قبض ثمن نفسه نقول كما قال أجدادنا في تونس ومتى كانت القطط تصطاد لوجه الله مرة أخرى أعود إلى أجدادي الذين استبقوا الزمن واستشرفوا الحال الواقعة وكأن لسان حالهم يردد مع أبي الطيب المتنبي:
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ ** فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
هؤلاء المغامرون في الشرف المروم ما زالوا خارج دائرة حساب النخاسين وهم أصلا لا يحومون حول حماهم الملغوم بالشوك والسقوط، فمنهم من قضى نحبه كطارق أيوب، وعلي حسن الجابر، وغيرهما، ومنهم من ينتظر، ولن يبدلوا فما كل الناس تهون عليهم أنفسهم وقيمهم.
الآن حصحص الحق وبان للعالمين أن النخاسين هم من راودوه عن نفسه، ولم يستغفروا لذنبهم وقد علموا عنه سوءا كثيرا.. هذا الصحفي السابق الذي يعاني من متلازمة ستكهولوم بعد أن آثر التلذذ بسوط جلاّده على حساب قيمه وأخلاقيات مهنته ورضي أن يؤوي إلى قمامة الذكرى حيث لا موت ولا أمل.
هم راودوه ولم يستغفروا وما احتاجوا إلى سكاكين ولا نسوة يشركنهن في الجريمة، فهم لا يمشون على استحياء وإنما يجاهرون بما لا يرونه عندهم منكرا من القول ولا زورا فذلك منطقي ومعقول عندهم ما داموا لا يعرفون حرية الصحافة كما شهد شاهد من أهلهم. هم كذلك لكننا لا نملك غير أن نقول: رحم أبا الطيب المتنبي وقد برم ببعض مرضى زمنه الذين كانوا على شاكلة محمد فهمي ومن لفّ لفه وعمل بعمله فقال أذم إلى هذا الزمان أهيله فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.