شعار قسم مدونات

هل هناك أحاديث متواترة؟

مدونات - مكتبة إسلامية
يقول الإمام الشافعي -رحمه الله- في "الرسالة": "ووجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النبي قال عام الفتح: "لا وصية لوارث ولا يقتل مؤمن بكافر"، ويأثرونه عن من حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي. فكان هذا نقلَ عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحدٍ عن واحدٍ، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجتمعين. قال: وروى بعض الشاميين حديثا ليس مما يثبته أهل الحديث، فيه: أنّ بعض رجاله مجهولون، فرويناه عن النبي منقطعا، وإنما قبلناه بما وصفتُ من نقل أهل المغازي وإجماع العامة عليه، وإنْ كنا قد ذكرنا الحديث فيه واعتمدنا على حديث أهل المغازي عامّا وإجماع الناس".

يُعتبر هذا الاقتباس تأسيسيا فيما نحن بصدده من بيان رسوخ طريق التواتر في نقل حقائق هذا الدين العقدية وأحكامه الشرعية، فقد ذكر الشافعي أنّ أحد الأحكام المتعلقة بالوصايا والمواريث قد تواتر نقله عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأنّ الناس مجمعين عليه، فجعل ذلك مقدّما على خبر الآحاد الذي ينقله واحد عن واحد. وقد افتتحتُ التدوينة بكلام الإمام الشافعي هذا لأسدّ الطريق أمام فرية معاصرة تقول إنّ الحديث عن التواتر أمرٌ اخترعه الفقهاء المتأخرون ولم يكن معروفا عند المتقدّمين، وكلام الشافعي هذا (ولد عام 150 هـ) خير دليل على معرفة المتقدّمين بالتواتر، واعتبارهم له مسلكًا حاسمًا في معرفة حقائق دينهم وأحكامه.

في تحريم لبس الذهب على الرجال، فقد ورد في نحو ثمانية أحاديث آحاد رواها جمعٌ من الصحابة الكرام، وأجمع السلف على تحريمه، فكان هذا كافيا وزيادة في ثبوت هذا "التشريع"

اشتراطات غير واقعية ولا عقلية
خرج علينا بعض المعاصرين بفرية تقول "لا تواتر في غير القرآن"، ويقصدون بذلك أنّه لا يوجد حكم شرعي نقلته الأحاديث قد وصلنا بالتواتر، وقد تولّى الدكتور عدنان إبراهيم كبر هذه الفرية ونفخ فيها الشبهات والأباطيل. وكانت إحدى أكبر المغالطات التي ذكرها هي اعتماده على تعريف -انتقاهُ انتقاءً- يقول إنّه وجده عند ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، وقد تعمّد انتقاء هذا التعريف لأنّه تعريف نظريٌ يستحيل تحققه في الواقع، وهو أقرب ما يكون للنماذج الرياضية وأبعد ما يكون عن الواقع الإنساني، إذ يرى عدنان إبراهيم أنّ المتواتر الحقيقي هو ما رواه -مثلا- 5 صحابة عن النبيّ، ثم عن كل واحد منهم روى الحديث خمسة من التابعين (25 تابعي)، ثم عن كل واحد من التابعين رواه 5 من تابعي التابعين (125 من تابعي التابعين)، ثم عن كل واحد من هؤلاء رواه 5 (625 شخصا!)، ثم عن كل واحد من هؤلاء رواه 5 (3125 شخصا!) وهكذا دواليك!

والدكتور عدنان يعلم أنّ هذا تعريفٌ نظريٌ يأتي في كتب المتأخرين من باب ذكر كل شيء حتى لو كان غريبا، أو من باب التفنّن في الاشتراطات، لا من باب أنه يتحقق في الواقع أو يدلّ عليه الشرع. كما نقل الشوكاني في "إرشاد الفحول" عن شروط التواتر عند العلماء، فقد اشترط بعضهم أكثر من أربعة أشخاص، واشترط بعضهم خمسة لأنّ أولي العزم من الرسل خمسة! واشترط بعضهم سبعة بعدد أهل الكهف! وتدرّج في ذكر اشتراطاتهم وصولا إلى من اشترط ألفا وأربعمائة لأنه عدد أهل بيعة الرضوان، وإلى اشتراط بعضهم جميع الأمة، واشتراط آخرين ألّا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد! ثم علّق على هذه الأقاويل قائلا: "وياالله العجب من جري أقلام أهل العلم بمثل هذه الأقوال التي لا ترجع إلى عقل ولا نقل ولا يوجد بينها وبين محلّ النزاع جامع، وإنما ذكرناها ليعتبر بها المعتبر ويعلم أنّ القيل والقال قد يكون من أهل العلم في بعض الأحوال من جنس الهذيان فيأخذ عند ذلك حذره من التقليد، ويبحث عن الأدلة التي هي شرع الله الذي شرعه لعباده…".

ونحن لا نهدف في هذه التدوينة (كما يفعل الدكتور عدنان) إلى انتقاء الآراء الشاذة النادرة لجعلها دينا ندعو الناس إليه، وإنما نهدف إلى تحكيم صوت العقل والحكمة، ومن ثم تكون معرفتنا للتواتر بعد مراجعة كلام أهل العلم من خلال ما يُقنع العقل ويُطمئن القلب. فهل يُشترط للتواتر تحقق هذه المعادلة المتضاعفة في كل طبقة حتى نحكم بأنّ الحديث قد ثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتواتر؟ كلا، ولم يقل أحدٌ من أهل العلم بذلك، بل الجمهور على خلاف ذلك، وجميع من كتبوا كتبا في الأحاديث المتواترة كالسيوطي والزبيدي والكتاني لم يشترطوا هذا الشرط، وذكروا جملة كبيرة من الأحاديث أو العقائد والأحكام التي وردتنا بالتواتر. فلماذا اختار الدكتور عدنان هذا التعريف الخيالي الشاذّ للتواتر؟

أما نقلُه عن ابن حبّان قوله: "وأما الأخبار فإنها كلها آحاد؛ لأنه ليس يوجد عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- خبر من رواية عدلين، روى أحدهما عن عدلين، وكل واحد منهما عن عدلين، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فلمّا استحال هذا وبطل، ثبت أنّ الأخبار كلها آحاد". أقول: أما هذا الكلام لابن حبّان فهو لم يأتِ لإنكار تواتر بعض الأحاديث أو العقائد والأحكام التي جاءت في السنة، ولو أكمل الدكتور عدنان النقل عن ابن حبان لظهر بأنّه مخالف لمذهبه تماما؛ ففي إحدى خطبه يرى الدكتور عدنان أنّ التشريع في السنّة لا يُقبل إلا بالحديث العزيز وليس بأحاديث الآحاد، ويرى أنّه يجب أن يكون في كل طبقة اثنان، فيروي الحديث صحابيان، وعن كل واحد منهما تابعيان، وعن كل تابعي اثنان وهكذا حتى يقبل التشريع. ثم يقول بعد ذلك إنّ هذا الحديث العزيز غير موجود، فحاصل كلامه أنّه لا يأخذ أيّ تشريع من السنّة!

لو نظرنا إلى ما ذكرناه من أحاديث وعدد الصحابة الذين رووها، وعلمنا أنّ عدد من روى عنهم أكثر من ذلك بكثير؛ لتيقنّا بأنّه يستحيل أن يتطرّق الشك إلى ثبوت عذاب القبر، ولو أنكر أحدهم ثبوت هذه الحقيقة العقدية.

أما ابن حبان فيقول بعد كلامه الذي نقلناه مباشرة: "وأنّ من تنكّب عن قبول الآحاد، فقد عمد إلى ترك السنن كلها، لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد". فكان كلام ابن حبان هذا في إثبات قبول السنن بأحاديث الآحاد، بينما أراد الدكتور عدنان إنكار أخذ الأحكام التشريعية من السنّة النبوية لعدم وجود الحديث العزيز، مع أنّه ليس شرطًا في قبول الأحكام!

على أنّا ننوّه إلى أنّك لن تجد في السنة تشريعًا يجب على المسلم الأخذ به قد ورد في حديث آحاد يتيمٍ دون أن تعضده أحاديث أخرى و/أو إجماع الصحابة وعمل الأمة به من بعدهم. فالأمر ليس إمّا حديث آحاد أو حديثًا عزيزا بالشكل النظري الخيالي الذي يطرحه الدكتور عدنان، وكأنّ ديننا يكمن في الأسانيد فقط! فقد أغفل أنّ الآحاد إذا تكاثرتْ من عدة طرق عن عدد من الصحابة، أو تلقّتها الأمة بالقبول وأجمعتْ عليها؛ كان هذا يقينًا لا يخالجه شكّ في ثبوت الحكم أو التشريع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-. ومن يُطالع كتب السنّة والآثار وكبار الأئمة يعلم يقينًا أنّ أمتنا لم تبنِ شيئا من أحكام دينها التشريعية القطعية على حديث آحاد واحد يتيم، إلا أن يكون في اجتهادٍ فيما يسع فيه الخلاف ممّا لم يُبيَّن على نحو قطعيّ، وهذا مع حجّية الآحاد في الأحكام.

فلم يختلف العلماء مثلا على حُرمة بيع النجَش (وهو أن يزيد أحدهم في ثمن السلعة ولا رغبة له في شرائها)، مع أنّه تشريعٌ جاء في أحاديث آحاد ولم يأتِ بحديث عزيز، ولكنّ هذه الأحاديث تعاضدتْ في السنّة، ونقَلَ العامةُ عن العامة هذا الحكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وصحابته الكرام، وأطبقتْ عليه الأئمة منذ القرون الأولى، وفشا في كتب الفقه، فلم يعدْ مجالٌ لأحدٍ بأن يشكّ في ورود تحريمه عن رسول الله ويقول: "هذا تشريعٌ في حديث آحاد فلا أقبله"! فهذا خبلٌ يتنزّه عنه أيّ عالم جادّ. وكذلك الأمر في تحريم لبس الذهب على الرجال، فقد ورد في نحو ثمانية أحاديث آحاد رواها جمعٌ من الصحابة الكرام، وأجمع السلف على تحريمه، فكان هذا كافيا وزيادة في ثبوت هذا "التشريع"، ولم يقل أحدٌ من أهل العلم إنّنا بحاجة إلى حديثٍ عزيزٍ كي يثبت تحريم لبس الذهب على الرجال!

undefined

نموذج حديث: من كذب عليّ متعمّدا
ولنأخذ على سبيل المثال حديثا شهيرا كحديث "من كذب عليّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النار"، فقد أحصيتُ بنفسي روايته عن أكثر من 50 صحابيّ، ولم أكمل البحث مع علمي بأنّ العلماء ذكروا أكثر من هذا العدد بكثير. ولكن لدينا 50 صحابيّا روى هذا الحديث، والاختلاف بينهم في الألفاظ يسيرٌ، مع تحقّق معنى مشترك هو: تحريم الكذب على النبيّ -صلى الله عليه وسلّم-، وأنّ تعمّد ذلك موجبٌ للنار. ثم لدينا مئات الطرق التي تصل إلى أولئك الصحابة. فهل يُعقل أن يتطرق الخطأ أو الكذب أو الزلل على جميع هذه الطرق؟! إنّ التشكيك بهذا الثبوت بحجة عدم انطباق ذلك النموذج الرياضي النظري "الشجري" على كل الروايات هو تعامل غير جادّ وغير علمي مع الأحاديث، وإذا كان الخطأ يمكن أن يحدث مع هذه الكثرة والتعدّد الكثيف في الطرق، فهو أحرى أن يدخل على باقي السنّة المروية بالآحاد، مما يستدعي عدم الثقة بها نهائيا، وهي غالب ما جاءنا من أحاديث!

ولو جاء أحدَنا خبرٌ من شخص عن شخص عن شخص كلّهم ثقات، ثم بعد يومين جاءه نفس الخبر من شخص آخر عن سلسلة أخرى من الثقات، ثم جاءه نفس الخبر عن ثالث ورابع وخامس وسادس كلّ واحد بسلسلة مختلفة من الثقات، والذين عاشوا في أماكن مختلفة ويستحيل أن يكونوا متواطئين على الكذب، فهل يُشكّك بذلك ويشترط أن يكون في كل طبقة من كل سلسلة العددُ خمسة من الأشخاص؟
فمثلا، حين يأتيه الأول يشترط أن يكون معه أربعة رووا عن نفس الشخص الذي روى عنه، وأن يكون مع هذا الأخير أربعة رووا عن الذي روى عنه.. إلى آخر النموذج الخيالي الذي يشترطه الدكتور عدنان!

في الواقع هذا ليس شرطا ملزمًا، وكل طريق مختلفة تماما للرواية تأتي بنفس الحكم أو المعنى فهي تزيد من يقينيّته وثبوته، ولا يُشترط أن تتكرر الطرق من مسلك واحد يمر بنفس تابع التابعي ونفس التابعي والصحابي، وأي تكرار للحديث من طرق أخرى وأشخاص آخرين، عن نفس الصحابي أو غيره؛ هو زيادة في اليقين. هذا ما يقوله العقل لمن تفكّر في ذلك، وهو ما كان عليه عمل الأئمة كما رأينا عند الشافعي وغيره، وكما رأينا عند مَن كتب في جمع الأحاديث المتواترة. وإنما دخلتْ هذه النزعة "الرياضية" في التعامل مع الشريعة والسنّة مع دخول منطق علم الكلام وآثار الفلسفة على كتب الأصول، على أنّ العلماء قبلوا ما جاء في صحيح السنّة وإنْ كانت آحادًا، وإنما كانت هذه تعريفات نظرية من بعضهم لا نصيب لها من التطبيق في الواقع!

undefined

إغفالهم للتواتر المعنوي
وممّا يستدعي النظر أيضا عند منكري الأحاديث المتواترة أنّهم يركّزون على "المتواتر اللفظي"؛ لإدراكهم بأنّ احتمال تواتر حديث بنفس الألفاظ من عدة طرق هو أقلّ من احتمال تواتر حكم شرعي أو معنى شرعي وإنْ كان بألفاظ وأحاديث مختلفة، مع أنّ الغاية الشرعية هي ثبوت الحكم أو المعنى، وليس ثبوت الألفاظ. وهذا محكّ مفصليٌّ في القضية، فنحن نُغلّب صوتَ العقل مرّة أخرى، ونرى – كما رأى أئمة المسلمين سابقا – أنّ العبرة هي في ثبوت الحكم الشرعي أو المعنى الشرعي، وليست في الاتفاق الشكلي لألفاظ الأحاديث، بل إنّ اختلاف الألفاظ بل واختلاف الأحاديث مع اشتراكها في إثبات نفس الحكم أو المعنى أحرى بزيادة اليقين والثقة!

وقد ذكر العلماء التواتر المعنوي هذا وفصّلوا فيه، فقال الخطيب البغدادي (ت 462 هـ) في "الفقيه والمتفقّه" في معرض إثباته للإجماع بعد نقل الكثير من الأحاديث التي توصي بالتزام الجماعة: "..أنها أحاديث تواترٍ من طريق المعنى؛ لأنّ الألفاظ الكثيرة إذا وردتْ من طرق مختلفة ورواة شتّى ومعناها واحد، لم يجزْ أن يكون جميعها كذبا، ولم يكن بدّ أن يكون بعضها صحيحًا".

ومن ثمّ فإذا أردنا معرفة تواتر حكم شرعي أو حقيقة عقدية في الحديث، فإنّنا نتصفّح كلّ الأحاديث التي تحتوي على هذا الحكم أو الحقيقة، ونقتنص الحكم أو المعنى المقصود من الأحاديث المختلفة، ولا نقتصر على الحديث الواحد الذي جاء بألفاظ متقاربة. ولنضرب مثالا على ذلك بمجموعتين من الأحاديث؛ تحوي الأولى حقيقة عقدية ينكرها بعض المعاصرين وهي "عذاب القبر"، وتحوي الثانية حكما شرعيا ينكره بعض المعاصرين أيضا وهو حكم "الرجم" للزاني المحصن. ومن المثير للاهتمام أنّ القضايا التي يتم إنكارها اليوم من بعض المعاصرين (كالدجال وعذاب القبر والرجم والشفاعة وغيرها) قد جاءت فيها رواية عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال فيها: "..ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال وبالشفاعة وبعذاب القبر وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا" (مسند أحمد).

ورغم ضعف الرواية لسوء حفظ علي بن زيد، مع كون بقية رواتها ثقات؛ فإنّ اجتماع هذه الحقائق الشرعية التي نرى من ينكرها جميعا اليوم في رواية واحدة أمرٌ مثير للاهتمام. وقد ثبت في الصحيح عن عمر أيضا أنّه قال: "فأخشى إنْ طال بالناس زمان أن يقول قائلٌ ما نجد الرجم في كتاب الله، فّيضلوا بترك فريضة أنزلها الله" (رواه التسعة ما عدا أحمد رواه بما ذكرنا، واللفظ لمسلم).

ثبوت عذاب القبر
undefined

لقد ورد في ثبوت عذاب القبر عدد كبير من الأحاديث سنذكر بعضها، فمنها أحاديث التعوّذ من عذاب القبر، إذ رويتْ بمئات الروايات في عشرات كتب الحديث من مختلف الأعصار عن نحو 24 صحابيّا، وهي كافية وحدها في إثبات عذاب القبر يقينًا. ولكن مع ذلك هناك جملة أخرى من الأحاديث التي تنضمّ إليها وتعضدها منها: حديث "عذاب القبر حق"، فقد روي عن أربعة من الصحابة. وحديث "هذه الأمة تبتلى في قبورها" فقد رواه أربعة من الصحابة أيضا. وحديث تفسيره -صلى الله عليه وسلّم- لقوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} وفيه إثبات عذاب القبر، فقد روي عن ستّة من الصحابة. وحديثه -صلى الله عليه وسلم- حين مرّ على قبرين وقال "إنّهما ليعذّبان"، فقد رواه خمسة من الصحابة. ودعاؤه -صلى الله عليه وسلّم- على المشركين بأن يملأ قبورهم نارًا، فقد رواه ستّة من الصحابة.

وحديث "من يقتله بطنه فلن يعذّب في قبره" فقد رواه صحابي. وحديث "ويجار من عذاب القبر" و"يؤمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر"، فقد روي عن أربعة من الصحابة. وحديث "قسط عليه عذاب القبر" فقد رواه صحابي. وحديث "أكثر عذاب القبر من البول" أو "عامة عذاب القبر من البول"، فقد روي عن خمسة من الصحابة. وحديث "إذا فرغ أحدهم من التشهّد فليتعوّذ بالله من أربع"، ومنها عذاب القبر، رواه صحابي. وحديث دعاؤه صلى الله عليه وسلم في جنازة أحدهم بأن يعيذه الله من عذاب القبر، رواه صحابي. وحديث سورة تبارك المانعة من عذاب القبر، رواه صحابيان. وحديث "القبر أول منزل من منازل الآخرة"، رواه صحابي. وحديث "لو سألت الله أن ينجيك من عذاب القبر"، رواه صحابي. وحديث "لقد ضُمّ ضمّة"، رواه صحابيان. وغيرها الكثير من الأحاديث لن نذكرها خشية الإطالة.

لو نظرنا إلى ما ذكرناه من أحاديث وعدد الصحابة الذين رووها، وعلمنا أنّ عدد من روى عنهم أكثر من ذلك بكثير؛ لتيقنّا بأنّه يستحيل أن يتطرّق الشك إلى ثبوت عذاب القبر، ولو أنكر أحدهم ثبوت هذه الحقيقة العقدية، لما صحّ له أن يثق بشيء من السنّة النبوية، فنحن أمام 16 حديثا (ولم نذكر الكثير) رواها عشرات الصحابة رضوان الله عليهم كلها تثبت عذاب القبر، ونقلها عنهم الجمعُ الغفير، وتلقّتْها الأمة بالقبول، فهو معنى عقدي ثابت ويجب الإيمان به، ولا يشكّك به إلا مشكّك بالسنة النبوية.

نحن نقول بخصوص عذاب القبر وحكم الرجم وغيرهما إنّ الأمر لا يقتصر على التواتر في السنة كما بيّنّا، ولكن ينضمُّ إليه إجماعُ الصحابة والتابعين ومن تلاهم، وهو مسلكٌ قطعيٌّ أساسيٌّ في نقل العقائد والشرائع.

ثبوت حكم الرجم
قد ثبت حكم الرجم أيضًا بنحو عشرة أحاديث مختلفة رواها جمعٌ من الصحابة الكرام، فمنها: حديث عبادة: "الثيّب جلدُ مائة ثم رجمٌ بالحجارة". وخطبة عمر الشهيرة التي حذّر فيها من إنكار حكم الرجم وأخبر أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلّم- قد رجم ورجم أبو بكر وهو بعده، وقد حضرها جمعٌ غفير من الصحابة ولم ينكر عليه أحدٌ ذلك، ورواها عنه بعضهم، وقد ثبت الخبر في ذلك وبأنّ الرسول -صلى الله عليه وسلّم- قد رجم عن نحو ستّة من الصحابة غير عمر. وحديث علي بن أبي طالب حين رجم المرأة قال: "قد رجمتها بسنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وروى عنه عامر بن شراحيل "إنّ الرجم سنّة سنّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وحديث رجْم رسول الله لليهوديّين، رواه نحو خمسة من الصحابة.

وحديث رجم رسول الله لماعز الأسلمي، رواه نحو اثني عشر من الصحابة، ولذلك قال بعضهم بتواتره لفظيّا. وحديث العسيف الذي فيه أنّ رسول الله رجم امرأة زنى بها العسيف، رواه صحابيان أو أكثر. وحديث رجم الغامدية وحديث امرأة من جهينة وحديث رجْمه -صلى الله عليه وسلم- لامرأة، رواها ثلاثة من الصحابة. وحديث "لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة"، رواه نحو أربعة أو خمسة من الصحابة. فهذه الأحاديث رواها جمعٌ من الصحابة، ورواها عنهم جمع غفير من التابعين ومن تلاهم، وتلقتها الأمة بالقبول، فأفادتْ بذلك ثبوت حكم الرجم، فلا يأتي أحدٌ ليقول: "نشكّ في ثبوت الرجم عن رسول الله"، فإذا لم يثبت الرجم لم يثبت معظم ما جاء في السنّة!

وإذا تصفّحنا الكثير من العقائد والأحكام التشريعية التي جاءت بها السنّة ولم ترد في كتاب الله؛ لوجدنا جملة كبيرة جدّا منها قد ثبتت بهذا المسلك من التواتر الذي يفيد اليقين بأنّها جاءت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-. فكيف إذا انضاف إلى ذلك مسلكٌ آخر لترسيخها، وهو مسلك الإجماع؟

إغفالهم لمسلك الإجماع
كانت النيّة في هذا المقال الكلام عن "الإجماع" مع التواتر؛ باعتبارهما مسلكين متعاضدين لنقل العقائد والشرائع التي جاءت بها السنة النبوية، ولكني آثرتُ إبقاء المقال التالي -والأخير في هذا الموضوع إن شاء الله- لقضية الإجماع؛ خشية أن يطول المقال هنا. ولقد جمع الإمام الشافعي فيما نقلنا عنه أول الكلام هنا بين المسلكين فقال: "فكان هذا نقلَ عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحدٍ عن واحدٍ"، ثم قال مباشرة عن الإجماع: "وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجتمعين". ونحن نقول بخصوص عذاب القبر وحكم الرجم وغيرهما إنّ الأمر لا يقتصر على التواتر في السنة كما بيّنّا، ولكن ينضمُّ إليه إجماعُ الصحابة والتابعين ومن تلاهم، وهو مسلكٌ قطعيٌّ أساسيٌّ في نقل العقائد والشرائع الواردة في السنة النبوية، وسنفصّل الحديث عن ذلك في التدوينة القادمة بإذن الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.