شعار قسم مدونات

في نقد الخطاب التدريبي

مدونات - محاضرة
هل ينبغي التقاعس عن نقد الخطاب التدريبي تحت وطأة الانبهار بأداء بعض المتحدثين البارعين على منصّات "التنمية البشرية"، لمجرد أنهم بارعون حقاً؟ إنّ اتفاقنا الواسع مع الفحوى أو تماهينا مع بعضها، لا يقضيان بأن نتغاضى عن مضامين مستترة ورسائل غير ملحوظة تتسلل إلى وعينا، وقد تهيمن على وجداننا دون أن نتحسّب لها أو نقوى على مقاومتها.

قد لا نلحظ تأثيرات عميقة، من قبيل أنّ "النجاح" في منصّات بعض المدربين ومتحدثي ما يسمى "التنمية البشرية" – وليس كلهم بالطبع – هو ظاهرة لا يسعها إلا أن تتحدث الإنجليزية، التي تدفع بنصوصها المُقحمة على السياق العربي. هذا ما يفعله نفر من المدربين ومتحدثي المنصّات الذين يستغرقون في تقليد مُستشرٍ يقوم على التقلّب الممجوج بين لغتين، والرسالة التي تتسلل إلى الوعي من خلال ذلك قد تكون أنّ هؤلاء المدربين والمتحدثين العرب "قادمون من هناك، حيث عوالم النجاح، وليسوا من هنا بأي حال".

يُمعن بعض المدربين عادة في مخاطبة الشخص الفرد بصيغة من قبيل: "أنت، نعم أنت!"، مع إهمال المجموع والسياق المجتمعي، وتأتي تعبيرات ذلك طاغية بالنص المجرّد ولغة الصورة المصاحبة.

قد نفهم من هذا التكلّف أو التصنّع أو الركاكة رسائل عدّة أيضاً، منها: لغتكم أيها العرب أعجز عن أن تحتمل إبداعنا وتجديدنا، أو أنّ صاحبنا المتحدث العربي يأنف الاغتراف من لغته وثقافته وهما ببساطة لغة من يخاطبهم وثقافتهم. إنه يزهد بالعربية ويلجأ إلى لغة من استعمروا البلاد والأذهان، ولو كان في المغرب العربي لأقحم الفرنسية بدل الإنجليزية، طبقاً لخبرات كل قوم مع الاستعمار والهيمنة النفسية المترتبة عليه.

ليس بوسعنا غض الطرف عن ولاء مطلق، يُبديه، أحياناً، مدربون ومتحدثون لمعلِّمي الصنعة الكبار في أمريكا، يبلغ حدّ تقمّص أساليب التدريب وطرائق الحديث وطقوس اعتلاء المنصّات وكيفيات استعمال لغة الجسد. إنه تقليد مفهوم بالطبع، لكنه يحرِّضنا على الشك بمقولة "الإبداع" التي تتسيّد هذه المنصّات ويجري تمجيدها وتعظيم شعاراتها، فقد لا يكون إبداعهم سوى إتيان بالشيء من بيئة أخرى وتقمّصه.

صحيح أنّ بعض المتحدثين والمدربين يجتهد في إضافة آيات قرآنية وأحاديث نبوية وقصص مأثورة وحكم تراثية وأبيات شعرية إلى مادة العرض والتدريب الأخاذة؛ لكنّ حصيلة الإدماج والتطعيم والتغليف هذه كثيراً ما تبدو شكلية، وقد يُراد منها أساساً شرعنة ما تقرر سلفاً من مضامين أو تسويغ صلاحية المضامين المستوردة إلى البيئة المحلية، مع افتقار إلى الانسجام النهائي أحياناً. تتضح هذه العلّة التلفيقية عندما يقع لاحقاً الاستدراك على المادة من مصدرها، فيتم بالتالي العدول عن النسخة السابقة المستوردة لصالح ما استجدّ من المستورد أيضاً، مع معاودة الكرَة في الإدماج الشكلي والتطعيم التلفيقي، وهكذا دواليك.

متعددة هي الرسائل المصاحبة التي تستقرّ في وعي الجمهور بعد عروض المنصّات إياها. فبعد جولة حديث أخّاذة لم تنقطع عنها وصلات التصفيق؛ سألني صديق بارع في اعتلاء المنصّات على الطريقة الأمريكية، عن رأيي في فقرته التدريبية التي قدّمها على خشبة مسرح عملاقة. حسناً، قلتُ له، إنّ الرسالة المركزية التي استقرّت في وعي بعضنا هي أنّ النجاح لونه أبيض! آية ذلك أنّ الصور والمشاهد جميعاً التي عرضها صاحبنا في سياقات الحديث عن النجاح والابتكار كانت لأشخاص بمقاييس لونية نمطية محددة، محسوبة على الأمريكيين والأوروبيين البيض، مع تجاهل ألوان البشر وسماتهم الأخرى التي تستحوذ على القاعة المكتظة بفاغري الأفواه كما تفترش عالمنا المتنوع. على أنّ ما أقدم عليه صاحبنا هو ما يفعله معظم نظرائه حول العالم بوعي منهم أو بدون وعي، وهو ما يعمِّق مشاعر غير حميدة وقناعات غير علمية على قاعدة الارتباط الشرطي الساذج بين لون الشعر والبشرة من جانب؛ ومواصفات النجاح والتقدم من جانب آخر.

لابد لنقد الخطاب التدريبي أن يقف ملياً عند أجواء المخاطبة، ومنها المبالغة في تضخيم المنصّات وألوان الإثارة بما لها من مفعول أخّاذ حقاً يستحقّ الإشادة بالجهود الدؤوبة التي تبذل.

ما هو أهم من ذلك في هذه المسألة هو أنها تتجاوز اللغة والنص والشكل إلى الفحوى القيمية التي تتخلّل الخطاب التدريبي وتتشبّع به أحياناً، ومردّ ذلك أساساً إلى التغاضي عن خلفيات فلسفية للمضامين التدريبية وتجاهل المفعول الإيحائي للرموز والعناصر المستعملة. يطفح بعض الخطاب التدريبي، مثلاً، بالنزعة الفردية العملانية التي تعظِّم الأنا. يُمعن بعض المدربين عادة في مخاطبة الشخص الفرد بصيغة من قبيل: "أنت، نعم أنت!"، مع إهمال المجموع والسياق المجتمعي، وتأتي تعبيرات ذلك طاغية بالنص المجرّد ولغة الصورة المصاحبة. ولهذا صلة ما بالمصدر الذي يتم استيراد المناهج والتقاليد والأساليب منه، أي المدرسة الأمريكية في المقام الأول، التي تُذكي النزعة الفردية وربما الروح الانتهازية أحياناً، ويمنحك متحدثوها المتألقون على منصّات التدريب إحساساً بأنك تحديداً من ستصبح سوبرمان العصر بقدراته الخارقة، وما عليك سوى الانصياع للمقولات والشعارات التي يتولّى "المدرب الدولي" أو "المتحدث العالمي" صبّها في وعي الذين يفغرون أفواههم دهشة ويفتحون عيونهم عجباً.

تنصرف الجمهرة من القاعات المكتظة بعد حملة تأثير وتعبئة مكثفة قد تحاكي طقوس غسيل الأدمغة أو تعيد إلى الأذهان تقاليد التنويم المغناطيسي، وقد يحسب كل ذي عينين بأنه تحديداً من سيغدو ذلك السويرمان، الذي هو صنف نادر جداً في الواقع، تماماً مثل تلك الثلة القليلة المحظية التي يمكن تصنيفها بأنها "أكثر الناس تأثيراً". مع ذلك فهناك ملايين الأشخاص قد تسابقوا لاقتناء كتاب من قييل "العادات السبع لأكثر الناس تأثيراً"، ورغم ذلك فقد بقي أكثر الناس تأثيراً معدودين، ويُشار إليهم بالبنان لقلّتهم نسبياً، ومن المحتمل أنهم لم يقرؤوا الكتاب الشهير في الأصل.

فهل من المجدي حقاً أن نطارد فنون النجاح في كتب مصنّفة "أكثر مبيعاً" لا نرى أثرها في واقع المجتمعات من حولنا؟! في بعض المضامين التدريبية ما يمنح الانطباع بأنها تسعى لإعادة صياغة التاريخ البشري، ولم لا؟! علينا، مثلاً، الإقبال على دورات "صناعة القائد"، التي تأتي عادة بصفة مكثفة في أيام أو سويعات، وقد تغلب على بعضها نزعة تجاربة تتربّح من بيع وَهْم القيادة للمتعطشين إليها. ولم لا يندفع عشّاق السلطة والمسكونون بالتحكّم والحالمون بالنفوذ والذين يعانون من تضخّم الأنا إلى طلب "صناعة القائد" التي تُذكي في بعض تطبيقاتها نزعات نرجسية؟! من المآخذ على "صناعة القائد" هذه أنها عملية تحمل للأحياء وعوداً بمنتهاها: "أنني سأصبح قائداً ورمزاً"، بما يعني تمليكاً وجدانياً للمآلات قبل نضوج شروطها.

يجري خلط في هذا السياق بين مفهوم القيادة الإدارية في المؤسسات ومفهوم القيادة المجتمعية والوطنية والنضالية والإصلاحية، رغم التقاطعات القائمة بينهما. وقد قلتُ لأحدهم يوماً: مشكلتهم في ما مضى أنهم كانوا يقضون عشرات السنين حتى يصبحوا قادة! لقد قضى مانديلا شطر حياته في السجن، وخرج الشيخ أحمد ياسين من السجن ليدخله مجدداً ثم ارتقى إلى فضاء الشهادة، أما تشي غيفارا فكبّد نفسه عناء التنقل بين أحراش أمريكا اللاتينية. مشكلة هؤلاء أنهم لم يتمكنوا من العيش معنا والاستفادة من مزايا "برامج إعداد القادة" التي يخرج منها القوم بشهادات استحقاق قيادي في خمسة أيام، أو يصبحون من "الروّاد" في نهاية أسبوع، وإن حالفهم الحظ فسيكون أحدهم من "المجددين" بالقرعة مع برنامج تلفزيوني شهير قدّمه أحد وعاظ الشاشات قبل سنوات خلت!

ينبغي الاعتراف بأنّ منصّات الحديث الجماهيري التي يعتليها بارعون في العرض والحديث والتدريب؛ بوسعها أن تكون مصانع دؤوبة لإعادة إنتاج الوعي الجماهيري وتعليبه.

لابد لنقد الخطاب التدريبي أن يقف ملياً عند أجواء المخاطبة، ومنها المبالغة في تضخيم المنصّات وألوان الإثارة بما لها من مفعول أخّاذ حقاً يستحقّ الإشادة بالجهود الدؤوبة التي يبذلها فنيّو المنصّة والإخراج البصري والمؤثرات المصاحبة للعروض، حتى أنها تمنحنا إحساساً بمخالجة المجد وتجريب العملقة السوبرمانية. ما يقتضي الاحتراس هنا، أنّ هذا المنحى إذ يُضاعف سطوة التأثير كفيل في الواقع بأن يستولي على الوجدان، إنه يستدرّ التصفيق ويعطِّل روح التمحيص والحسّ النقدي إزاء الفحوى المجرّدة.

والنتيجة في أفضل حالاتها هي تمليك المنتج النهائي، الذي هو خبرات ومقولات ومزاعم وحجج منسوجة بعناية، مع الزهد في تمليك أدوات اجتراحها ومفاتيح تقويمها ومقومات تفكيكها وإعادة تشكيلها وتطويرها والبناء عليها تراكمياً. إنها تحاكي فعل استيراد الآلة الذي هو أيسر من فعل تصنيعها أو حتى تجميعها، وهو ما يجعل الجمهور عالة على منتجي الآلة ومروِّجي المقولات الجاهزة في منصّات التدريب والحديث التوجيهي الجماهيري؛ الذي يأتي تحت عناوين ملتبسة من قبيل "التنمية البشرية".

ينبغي الاعتراف بأنّ منصّات الحديث الجماهيري التي يعتليها بارعون في العرض والحديث والتدريب؛ بوسعها أن تكون مصانع دؤوبة لإعادة إنتاج الوعي الجماهيري وتعليبه، وتحويل الأفراد الذين يتم استدرار التصفيق منهم إلى نماذج بشرية متماثلة، تمارس فعل التقمّص والمحاكاة، فتتلقف ما يُلقى إليها باسم الإبداع والابتكار، وبوسعنا أن نلحظ أقداراً من أثر ذلك في سلوك بعضهم وأسلوبه في الحديث، بعد إفاقتهم في اليوم التالي.

وعندما تطفح منصّات التدريب والحديث الجماهيري بمؤثرات استمالة الوجدان وتكييف الذهن والهيمنة على الوعي؛ فإنها تعزز جاهزية الانقياد المشبّعة بوهم التفرّد والإبداع واستقلالية الشخصية والتفكير، وقد يصبح هذا كله مادة تتندّر عليها الأجيال المقبلة، التي ستكون قد سئمت شعارات مستهلكة من قبيل "التنمية البشرية".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.