شعار قسم مدونات

هناك أضواء في آخر النّفق

blogs - نفق
أتحسَّسُ المكانَ من حَوْلِي، أدَقِّقُ في تفاصيلِه الصَّغِيرةِ وأطِيلُ التَحديقَ .كُلُّ الأَشْيَاءِ تُنْبِئُنِي بأنّ بَدْري قَدْ غابَ و حلَّت من بَعْدِهِ اللَّيَالِي الظَلمَاءُ تَرْثُوهُ؛ وداعًا يا ضياءَ القَمَر! يُخَيِّمُ السَّوَادُ علَيَّ وعلى كلّ ما يُحِيطُ بي في هذا النفق ويتسلَّلُ الوهنُ إلى أْصَالي. لا أقوَى كثيرًا على المقاومةِ فأسلّمُ نفْسِي لِدوّامَةٍ تَجْرِفُنِي وتَجْرِفُ معها سيل أفكارِي المُتقَطِّعَ. أصطدم بِمَطبٍّ مرّةً، تُؤْلِمُنِي وخزاتُ الأشْوَاكِ مرَّاتٍ أخْرَى وأتعثرُ أحيانًا في الحواجزِ فأنْكَسِرُ كطائرٍ جريحٍ متهاوٍ كسرتْهُ رغبة مُلِحَّة في التحليقِ.

 

بعد ذلك أُغمِضُ عينيَّ وأمْضي، لا أعرف أيّة طريق أسيرها ولا أجدُ حائطًا أتكئُ علَيْهِ إلى أنْ يطوفَ بي صوتُ نسِيمِ الصبحِ يحدّثُنِي: "هناك أضواء في آخر النفق، حتمًا ستؤنسكِ وتنسيك"، لتتوَقفَ بذلكَ دوّامَتِي وتسْطَع الشمسُ تضيء ظلمتي وظُلْمةَ النفقِ فأنْسَى ما مضى كأنّه لمْ يكنْ ..هذه كلّها أشياء تحدثُ لي دائمًا وفي كل مرّة تطْلُبُ منِّي عبرةً لكنّي قلّما أعتبر.
 

يحدثُ دائمًا أنْ تصيبنا وعكات يتملّكنا فيها الحزنُ، نعيشُ معهَا دمارًا داخليًّا ينخرنا، يُشلّ تفكيرُنا من شدَّة التفكيرِ فنَنْهارُ على حافّة أحلامنا. يحدث دائمًا أنْ تتبعثر أشلاؤنا في مفترق الطرقِ، نُبصِرُهَا بأسى، تبكيها عيونُنا ولا تقوى أيدينا على لَمْلَمتِهَا. ويحدُث أن تنفخَ الرِّيحُ في أشيائنَا الجَمِيلَةِ لتغدوَ بعد ذلكَ ذكرياتٍ نتقفَّى أثرَها بإرادتنا لتمحوَ لَنَا أثرَنا كلَّمَا حيَت.

إذا ما قرأنا في سيَّر الأنبياءِ تبيّن لنا أن كل سيرةٍ كان لها من الحزنِ نصيبًا ومن الفرج بعد الحزنِ مخرجًا، لتكون كلّها عِبَرا جعلها الله لنا لعلَّنا نعتبر

في كل مَرَّةٍ، نحْسَبُهَا الخاتمة قد دَقَّت ونحسبُ عقارب السّاعة تتسارع نحو النهاية بعد أن عهدنا بُطْأها ولا عزاءَ مع هذا يعزّينا.. لكن أملاً جديدًا يطلُّ علينا يعيد للرُّوحِ روحَها وعنايةً تحيط بنا من حيث لا ندري تقوّينا، في كلّ مرّة نُشفى من وعكاتنا وتُقام من جديدٍ جدرانُنَا. تقوى أحلامنا، تولدُ فينا أحلام أخرى ويلمُّ شتاتُ أرواحِنا لنصنعَ لنا ذكرياتٍ جديدةً أكثرَ جمالاً وأعمقَ أثرًا، فلا الحزن دائم وكل شدَّةٍ لا محالة زائلة.

وأظلُّ أنا هكذا، أفرح حتّى إذا ما أصابتني مصيبة أهنُ وأتيهُ في حلقاتٍ مفرغةٍ لا أعرف كيف أخرجُ منها إلى أنْ أصبحتُ منذ فترةٍ أقتنع شيئًا فشيئًا بأنّ الأصلَ في الأشياءِ مزْج بين بياضِ النورِ وسوادِ العتمِ لأنّ منطقَ الحياةِ قوّة بعد كبوةٍ وشفاء بعد مرضٍ ورزق بعد فقرٍ، إذ نضعف ونقوى، نمرضُ ونشفى، نحزنُ ونسعدُ وتلكَ الأيّام يداولها الله بيننا.
 

دائمًا نزخَم بِالفَرَحِ بعد الحزنِ ونجهر بالنور بعد الظلمة. لا يَستطيع الكونُ برحابتهِ أن يَتَّسِعَ لفرحتنا إذا فرحنا، ولا تملك حينَها الأرض بكلِّ ما فيها منْ جاذبيّةٍ أن تجذب منّا ضَحِكَاتِنَا وتواريها عَنَّا.. وكمْ أزمةٍ اشتَدّتْ وراودتنا الوَسَاوِسُ فَابْتَأَسْنَا ثمَّ فُرِجَتْ وبُهِجنَا ثُمَّ تُعيدُ الأَيّامُ من بعد ذلكَ نفْسَهَا لكنّنا نَنْسى!

تعالوا نتأملْ في أَضْوَاءٍ أضَاءَتْ أنفاقَ يوسُف ويعقوب:

إذا ما قرأنا في سيَّر الأنبياءِ تبيّن لنا أن كل سيرةٍ كان لها من الحزنِ نصيبًا ومن الفرج بعد الحزنِ مخرجًا، لتكون كلّها عِبَرا جعلها الله لنا لعلَّنا نعتبر. كلم أصاب يوسُفَ أضعفه، وغمّ حلّ بيعقوب أذهبَ بصره، ثمّ ألمْ يُكرّم يوسف من بعد ظلمه أيَّمَا تكريمٍ؟ ألم ينتقل من ضيق بئرٍ إلى سعةِ قلوبٍ وسعةِ دنيا بأكملها؟ ألمْ تُفرج كُربتُه ويزُلْ حزنُه؟ بلى، أضاءت الأضواء أنفاقَ يوسف في كلّ مرّة أظلمت عليه فيها، أشرقتْ شمسُهُ بعد كلّ غروبٍ وطلع في الأخير فجرُهُ متزيّنا بنسائم الحق.

طال البُعد ثمّ عاد ليعقوب يوسُفُه ولعيني يعقوب نورُها إذا ما لُمّ الشّملُ من بعدِ الفرقةِ. لتضيء الأضواء كذلكَ نفقَ الاشتياقِ والتلظي الذي ظل فيه يَعقُوبُ سنينًا ليس له فيها نُور .وتبقى لنا من بعدِ يوسف ويعقوبَ قصَّة هي منْ أحسَن القَصَصِ، نقفُ عنْدَهَا  نتأمّلُ معانِيهَا ونَتَّعِضُ مِنْهَا و مِمَّا تزْخَمُ بِهِ من عبرٍ جِديرَةٍ بأن تُحبّرَ بمَاءٍ من ذهبٍ في دستور الحياةِ.

لا أقول لك ابن جدارا تمنع عنك الحزنَ لأنّ المحنَ لن توقفَ مدادَها إلَيْكَ، كلُّ ما أوصيكَ به أنْ تَسَلَّحْ بالصّبرِ قدر ما استطعت

قصَّة هي في الحقيقةِ تجْسِيد أمثل لمَعنى المراوحةِ بينَ الأَشْيَاءِ ومعكوساتها، وما أحوجنا إلى أن تتحول هذه المراوحة عندَنا إلى بديهةٍ ضمنَ باقي بَدِيهَياتِنَا. "لولاَ الظلام لما عشقنا النورَ"، يقول الكاتب الأمريكي أوج ماندينو: "سأحترم النورَ لأنه يريني الطريق، كما أنَّنِي لن أنسى أن أحترمَ الظَّلاَمَ لأنّهُ يريني النجوم في حياتي".

وأجدُ فيما يقولهُ ماندينو إجَابةً لأسْئِلَةٍ تَتَرَدَّدُ في ذِهْنِي دائمًا، أسألها لنفسي مرارًا وتكرَارًا، ماذا لو كانتْ الدنيَا بأكملها نور؟ وماذا لو لم تكن لنا خيبات ولا مِحَن أو أزَمات؟ ماذا لو لم نكن لنعرفَ للحزنِ معجَمًا في قواميسِ حياتِنا؟ كنتُ دائمًا أعْلَم يقِينًا رغم كلِّ ما يراودُني، أنّ ربّك الذي جعل لنا الحزْنَ كما الفرح لَه حِكْمَة في ذلك .حتّى صرت أوقنُ بعد كلّ انكساراتي بأنّ الظلامَ الذي يحجبُ عنّا النورَ من زاويَةٍ أولى، يغرسُ فينا التّوقَ للنور وتقديسه من زاويةٍ أخرى أوسعَ أُفُقًا. هذا الظلام الذي لولاه لما عرفنا النورَ ولا قدّرنا قيمتَهُ، ولعلّها حكمة من حكم الله.

ختَاما، لا أقول لك ابن جدارا تمنع عنك الحزنَ لأنّ المحنَ لن توقفَ مدادَها إلَيْكَ، كلُّ ما أوصيكَ به أنْ تَسَلَّحْ بالصّبرِ قدر ما استطعت، وليسَ الصّبرُ بتحمّلِ المصائب سلبًا وإنّما "بأن تنْظُرَ إلَى الشوكةِ وترى الوردةَ وتنظرَ إلى الليل وترى الفجر: "بالضبط كمَا وردَ في قاعدةٍ من (قواعدِ العشق الأربعون)"، أي أن تثقَ دائمًا بأنّ الأضواء تنتظرُك في آخرِ النّفقِ وأنّ كلّ ما عليك هو أنْ تبْحثَ بكلّ ما أوتيتَ من صبرٍ عن آخرِ النَّفقِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.