شعار قسم مدونات

لماذا ترتعدون من الجزيرة؟

The Al Jazeera Media Network logo is seen inside its headquarters in Doha, Qatar June 8, 2017. REUTERS/Naseem Zeitoon
على مر السنوات الماضية كانت قناة الجزيرة غصة في حلق كثير من الأنظمة الاستبدادية، وقد فرضت نفسها قوة إعلامية أولى في المنطقة، مستفيدة من هشاشة البنية الإعلامية في كثير من البلدان العربية حيث لا تغدو المكاتب الإعلامية أن تكون مجرد أبواق متحدثة باسم السلطة، بعيدا عن أي مقاربة تنفتح فيها على ما تعيشه الشعوب وما تعانيه.
من هذا المنطلق، يحق لنا القول إنه كان حريا على من قادوا الهجمة الأخيرة على الجزيرة أن يفكروا في تقديم منتوج حتى وإن لم يكن أرقى من ذاك الذي تقترحه الجزيرة، فقد وجب أن يضاهي ما تعرضه القناة القطرية. والحقيقة أن العكس هو الحاصل، فأكثر ما تجود به علينا قنواتهم سخافة في ضحالة، وهي أسخف ما تكون في رمضان ببرامج فاقدة للمعنى وغير حاملة لأي رسالة، ولا بعد معرفي ولا توعوي وراءها سوى أنها إضاعة للوقت.

هل يملك من ينتقدون الجزيرة ولو نزرا قليلا من مصداقيتها؟ إذا كانت الجزيرة منبرا إعلاميا فاشلا فلم كل هذا القلق منها؟ ألا يجدر بهم أن يتركوها تفشل وحدها؟ أم أن الفشل صار مدعاة للغيرة والحسد؟ هل تملك قنوات أخرى فصاحة جمال ريان وبلاغة فاطمة التريكي وجرأة غادة عويس؟ ماذا حقق أولئك حتى يستحلوا مهاجمة الجزيرة؟ أليسوا سوى حفنة من المتطفلين على الإعلام؟ ألا تستحق المجتمعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إعلاما يرصد هموم شعوبها عوض مهاجمة قامة إعلامية مثل الجزيرة؟

تمكنت الجزيرة من أن تصنع لنفسها اسما في حاضرة الإعلام، بعدما تميزت بهدافة ما تقدمه واحترافية برامجها، كما كانت سباقة لرصد أحداث هي بمثابة خطوط حمراء عند الآخرين، ولا أتوقع أنها في حاجة إلى أمثالي لكي يلمعوا صورتها.

إن أفضل ما يمكن أن تقوم به الدول التي تهاجم الجزيرة اليوم، هي أن تنشغل بأحوالها لتصلحها وتسعى ما استطاعت أن ترقى بدكاكينها الإعلامية إلى مصاف القنوات الهادفة، التي تحترم نفسها وجمهورها، هذا إن كان لها جمهور أساسا. ولتعلم أن للمتابع ذوقا وذكاء، وأن عهد تمييع الحقائق وذر الرماد في عيونها قد ولى.

إننا في حاجة اليوم إلى منابر إعلامية حقيقية تنافس الجزيرة في ظل تخلف المشهد الإعلامي العربي في عمومه عن ركب التطور المتسارع الذي يعرفه مجال الإعلام، مع بزوغ نجم مواقع التواصل الاجتماعي، وفي ظل تزايد نسب الوعي في الداخل العربي بنظم عمل ما يعتقد أنها وسائل إعلام في بلدانهم.

إن ما صدر عن أحد المسؤولين الخليجيين من وصف للجزيرة بالدولة؛ دليل آخر على قوتها وانفرادها في قيادة مشهد إعلامي عربي فاقد للبوصلة، إعلام تابع في الأحيان أغلبها لوزارة الداخلية… تبعية تجعل من الحقيقة كما يقول الفلاسفة نسبية لا مطلقة، لكن وجه النسبية هنا هو تحكم السلطة في فحواها، حتى يخيل لك وأنت تشاهد تقاريرهم الإخبارية أنكما لا تتقاسمان الهواء عينه.

من يعرفون قنوات العرب التي تزخر بها أقمارهم الصناعية، يستطيعون إدراك حجم الهوة بين المنتوج الإعلامي المحترم للجزيرة وما تعرضه القنوات الأخرى من سفاسف الأمور وقشورها… الناس يعانون في مناطق عديدة في هذا العالم الفسيح، والمهنية الصحفية تقتضي في نظري أن تنشغل وسائل الإعلام بها علها تسهم في حلحلتها، لكن مرارة حقيقة الإعلام الرسمي في القطر العربي شيء آخر..

منابر بمثل قوة منبر الجزيرة لا بد أنها تزعج الأنظمة المارقة عن نهج الصلاح، والتي تريد دائما أن تقنع شعوبها أن ثمة خطوطا حمراء، وكأنها القداسة! في الإعلام الحق وحدها الحقيقة مقدسة، وحينما تدخل حسابات السياسة في توجيه الخط التحريري للإعلام فهناك انتظر هوانه وسقوطه.

من يهاجمون الجزيرة اليوم مع أنهم يلصقون صفة الفشل بها لا بد أنهم يقلقون من أصواتها، ولربما كان الأمر أكبر من مجرد القلق، ربما كانوا يرتعدون منها أيضا، والسؤال هنا لهم يوجه، لماذا ترتعدون من الجزيرة؟

ليس لي في كل ما سلف أدنى رغبة للدفاع عن الجزيرة، فقد تمكنت الجزيرة منذ سنوات من أن تصنع لنفسها اسما في حاضرة الاعلام العالمي، بعدما تميزت بهدافة ما تقدمه واحترافية برامجها الإخبارية والوثائقية، كما كانت سباقة لرصد أحداث هي بمثابة خطوط حمراء عند الآخرين، ولا أتوقع أنها في حاجة إلى أمثالي لكي يلمعوا صورتها. والناس على اختلاف أيديولوجياتهم وأفكارهم وتوجهاتهم قد يختلفون مع الجزيرة، كما قد ينتقدونها، ولربما لا يحبونها ولا هم يتابعونها، لكن ثمة موقف واحد يشتركون فيه تجاهها؛ لا جرم أنهم يحترمونها، لأنها في نهاية المطاف نجحت فيما عجزت عنه قنوات ومنابر أخرى تعد بالآلاف. نعم، فقد نجحت الجزيرة في كسب ود متابعيها حينما احترمت عقولهم وجعلت من واقعهم لبا لمواضيعها.

نفهم جيدا أن للسياسة حساباتها، ولسنا ننفي أن الإعلام والسياسة فيهما من التداخل الكثير، لكننا نعي أيضا أن عظمى وسائل الإعلام في بلدان غربية لها عراقة وصيت في استقلالية أجهزتها الإعلامية لا تسلم من النقد وهذا حال الناجحين عموما.. أما الإعلام في بلدان يرى مسؤولوها أن الجزيرة دولة لا قناة، فهو إعلام مسكين يعلق نجاحه على نجاح حلقات الكاميرا الخفية في رمضان، ليخفي فشله في نشر الوعي والاقتراب من الحقيقة والحديث عن قضايا المجتمع لا عما يلهيهم عنها.

من يهاجمون الجزيرة اليوم مع أنهم يلصقون صفة الفشل بها لا بد أنهم يقلقون من أصواتها، ولربما كان الأمر أكبر من مجرد القلق، ربما كانوا يرتعدون منها أيضا، والسؤال هنا لهم يوجه، لماذا ترتعدون من الجزيرة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.