شعار قسم مدونات

بين الإنسان والتاريخ!

blogs - رحيل رجل أبيض وأسود
في السابع من يونيو من العام 1944م، كان شاطئ نورماندي يستعر بين هجوم الحلفاء الكاسح ودفاع الألمان المُميت، في واحدٍ من أعنف فصول الختام لمسرحية الخمسين مليون قتيل. في تلك اللحظة من صباح اليوم المذكور، رُبّما خفق في صدر الشاب Ryan الجالس في القارب الأخير، خافقٌ يسأله: تُرى.. مَن مِنّا سيحكي ما حدث للآخرين في ذلك اليوم: أنا، أم هذه المعركة؟ ربما تسارعت الأسئلة مع تسارع الرصاصات التي حصدت زملاءه من قواربهم الأُوَل.. تلك الرصاصات التي تعرف طريقها الآن إلى قلبِه لتُسكِته عن ذلك السؤال: مَن سيسرد معركتي الحالية تلك جوار نورماندي في كُتب التاريخ؟ أم أن التاريخ لا ينظر إلا لما أنتجته المعادلةُ غير عابئٍ بما حدث في أُنبوبِ الاختبار؟ رُبّما رَغِبَ في سؤالٍ آخر، غير أن إصبع القنّاص الألماني على التبّةِ قد قرّر أن نكتفي بهذا الآن. 
حول إزهاق القوات الأمريكية لنصف مليون روح من أطفال العراق، تقول السفيرة الأمريكية للأمم المتحدة (مادلين أولبرايت) في حوار مع شبكة CBS: "نعم، كان هذا خيارًا صعبًا، لكنّا نعتقد أن الثمنَ كان مُناسبًا". هكذا ببساطة؛ لأنه -وفق المذهب الإمبريالي- "لا يمكننا أن نطبخ الأومليت دون كسر البيض".

هذا هو إنسان الحضارة الذي لا قيمة له، ذلك الكائن الأداتي المُسعَّر بأسعار الغاية الحضارية الأسمى: "طبخ الأومليت". فنصف مليون طفلٍ في العراق (ثمنٌ مناسب)، ومحمد الدُرّة أيضًا كان (ثمنًا مناسبًا). حربان عالميتان وقنبلتان ذريّتان، خمسة عشر مليونًا من الهنود الحُمر، قرون من الاحتلال، ومحاكم تفتيش لا تأبه بحياة الجموع لمجرّد الشكّ.. كل هذا كان ثمنًا مناسبًا لتطبخ الحضارة وجبتها فوق أتون الإنسان المُنصهِر.

فلا صرخة من العذاب أشد من صرخة إنسان واحد، ولا عذاب أشد مما يمكن أن يعانيه إنسان واحد، ولا معاناة الكوكب بأسره أشد من عذاب روح واحدة، كما قال فيتغنشتاين. أفلم يقل ربُّك على من قتل نفسًا بغير حقٍ: "فكَأنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا"؟

فتى القارب في نورماندي لم يكن خائفًا من الموت، بل كل ما كان ما يخشاه النسيان.. أن يذهب في طيّ الصفحات لا يُخلّد فيها بسطرٍ، فيُقال: انتصرت قوات الحلفاء على دفاعات الألمان، ثم لا يعرف أحدًا أن قلب هذا النحيل اضطرب من معركةٍ لا يدري ما ناقته فيها ولا جمله! فهكذا علّمته الحضارة: أن يخاف -جدًا- من بخسِ السِّعر.

الإنسان والتاريخ.. تلك الثنائية التي لا يأمن أيٌّ من طرفيها صاحبَه، فالتاريخ لا يرى الإنسان، بل يرى الجمهور. والإنسان لا يرى التاريخ، ولكن يرى حاضره الذي ينتهي. الإنسان في عين التاريخ لا يعدو كونه تِرسًا تجري بدورانه الساعةُ حتى تنكسـرُ أسنانه، فيستبدله بجديد. والتاريخ لا يتمثّل للإنسان إلا كفُرن القِطار الذي يبتلع الفحم ليمضي، دون أن يُميّز أن تلك الفحمة التي أحرقها لم تكن ترغب في أن تحملها يدُّ الفحّام.

كم مرة سألت نفسك، أو سألتك هي: هل سينتهي كل هذا حقًا أم أن الضرورةَ لا تقتضـي ذاك؟ هل ينبغي أن تعود فلسطين في حياتي كما كادت أن تندثر في عهدي؟ أم أن التاريخ أوسع من أن يعتبرني كمقياس؟ رُبّما كان تاريخ كل منّا مُقاسًا على نفسِه، فلا ريب إذن أن يقيس العالم –هو الآخر- تاريخَه على نفسه، فإن شمل قاموسك في التاريخ ستين سنةً، فلِمَ لا يحمل العالم قاموسًا من خمسين ألف عامٍ أو يزيدون؟ لكن.. ستبقى الإشكالية هنا في الغرض من كل ذاك. فحين تفنى أنت لتحيا قضيتُك ويتحرر الإنسان والفكرة، فلا بأس أن يتعامل العالم بتاريخه لا بتاريخك أنت، لكن حين يحدث كل هذا من أجل أن نطبخ الأومليت، فلا عاش العالم ولا عاش تاريخه.

فلا صرخة من العذاب أشد من صرخة إنسان واحد، ولا عذاب أشد مما يمكن أن يعانيه إنسان واحد، ولا معاناة الكوكب بأسره أشد من عذاب روح واحدة، كما قال فيتغنشتاين.أفلم يقل ربُّك على من قتل نفسًا بغير حقٍ: "فكَأنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا"؟ فكذا أيضًا من أحياها "فكَأنَّمَا أحيَا النَّاسَ جَمِيعًا".

إن الإنسان على جسدِه وشهواتِه وكل نزعاته المادية: فكرة. وإن الموت على كل فناءه لهذا الجسد: فكرة.
وإن التاريخ الذي يمرّ عليه الإنسان من خلال الموت: فكرة. فلو فنيت الفكرة لأجل الفكرة لم يكن ذلك فناءً وإنّما تخليدًا من نوعٍ آخر، ولكن أن تفنى الفكرةُ لتُحرز الإمبريالية نقاطًا إضافية في معركة رأس المال، فذلك هو التاريخ الذي لم يُعامل الإنسان إلا كما عامل الطبّاخ بيضةً طازجةً لأجلِ قُرصٍ من الأومليت.

الإنسان الذي أفرد (بيجوفيتش) حياته للدفاع عن أهلية روحه وإنسانيته، لا يمكن أن يخاف إهمالًا من التاريخِ لأنه مَن يصنعه، فالثنائية هنا متفاعلة ومتبادلة الأثر. أمّا الإنسانُ الذي شغله الثمنُ عن القيمةِ، فإنه لا يعرف التاريخَ ولم يضع فيه حرفًا.

في كتاب الحياة السائلة، يتناول الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي (زيجمونت باومان) مقارنةً من الجانب الخفيّ لهذا العالم العنيف، فيضع البطل الأسطوري في جهةٍ مقابلةٍ مع الشهيد. فالبطلُ جسدٌ تلبّس صورة الفكرة، فحوّله التاريخُ أداةً لصنعِ المجد، فلا قيمة له إلا بالنياشين التي سيحصدها في مقابل ساقٍ مبتورةٍ أو روحٍ مُزهقةٍ خدمت آلة الدمار وحققت لها السلطة. بينما كان الشهيدُ فِكرةً خُلِق لها جسدٌ يبلى من أجل نضالٍ شريفٍ، يبحثُ أول ما يبحث عن معنى الإنسان.

فحين يتحوّل الإنسانُ لجسدٍ، فإنه ينشغل بما انشغل به فتى نورماندي، ويقلق حول ما سيذكره عنه التاريخ. وحين يتحرّر من عبودية التجسيد، فإنّه يرضى بأن يكون جسده جسرًا تتحرّر على سبيلِه الإنسانية، كما تحرّرت روحه هو من ثِقل الأجساد، وغابت عن الدنيا بلا التفاتةٍ واحدةٍ لما سيذكره المؤّرخون والرُواة.

فحينها، وحينها فقط، تخرج ثُنائية الإنسان والتاريخ من دائرة الصـراع، إلى دائرةِ "أحيَاءٌ عِنْدَ ربِّهِم يُرزَقُون". فالإنسان الذي أفرد (بيجوفيتش) حياته للدفاع عن أهلية روحه وإنسانيته، لا يمكن أن يخاف إهمالًا من التاريخِ لأنه مَن يصنعه، فالثنائية هنا متفاعلة ومتبادلة الأثر. أمّا الإنسانُ الذي شغله الثمنُ عن القيمةِ، فإنه لا يعرف التاريخَ ولم يضع فيه حرفًا، فلا يعامله إلا كما يتعامل التاجرُ مع زبائنه: هاتِه هي السلعةُ، فأين الثمن؟
والله أعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.