شعار قسم مدونات

التراويح على إيقاع التكنو

blogs - صلاة

في موسيقى التكنو كل شيء إلا السكينة، فكيف إن اقتحمت إيقاعاتها الصوتية شعائرَ رمضان المبارك؟!

حسناً. يعود الأمر إلى مهرجان كبير يقام كل سنة في جزيرة الدانوب في فيينا. إنها جزيرة اصطناعية تم الفراغ من تأهيلها قبل ثلاثة عقود بعد مراحل طويلة من الإنشاءات. أصبحت جزيرة الدانوب من يومها مقصداً للاستجمام والترويح والنشاطات الفنية الصاخبة أيضاً، أبرزها مهرجان سنوي يقام في يونيو/ حزيران من كل سنة، يقصده ما يزيد على ثلاثة ملايين شاب وشابة من أنحاء النمسا وجوارها الأوروبي.

 

في ليلة التاسع والعشرين من رمضان 1438 (2017) انطلق المهرجان في نسخته الرابعة والثلاثين، الذي يستغرق أياماً ثلاثة بلياليها، وهو يُعتبر أكبر حفل موسيقي في العالم، وينتظم في انعقاده السنوي منذ عام 1984. وفي فيينا ذاتها تُقام الصلوات الجامعة في نحو مائة وخمسين مرفقاً لصلاة المسلمين تكتظ بالمصلين عن آخرها، لكنّ واحداً منها فقط يحمل صفة مسجد من الناحية الرسمية والمواصفات الشكلية.

 

في فيينا، عاصمة الإمبراطورية النمساوية البائدة، كانت آخر ليالي رمضان المباركة استثنائية. فعلى ضفة الدانوب احتشدت آلاف مؤلفة من المسلمين والمسلمات لأداء صلاة التراويح التي تمتد بهم كالعادة حتى انتصاف الليل

ترتفع مئذنة هذا المسجد الوحيد منذ أربعة عقود على ضفة الدانوب في تناغم مع الهوية البصرية للمكان، والبناء مستوحى من نمط المعمار البلقاني التقليدي للمساجد، بما في ذلك القبّة الخضراء المنبسطة. ومن شواهد المنطقة برج الدانوب، أحد معالم العاصمة النمساوية، وهو يتناظر بصرياً مع مئذنة فيينا حتى تكاد العين ترى أحياناً برجين متناغمين أو مئذنتين متوازيتين لا خصام بينهما.

 

اكتمل تشييد مئذنة فيينا على أطراف المدينة عام 1979 ثم وجدت ذاتها مع التمدد العمراني في وسط المدينة محتفظة بموقعها المطلّ على النهر. إنه الدانوب الذي ينبع من الغابة السوداء في ألمانيا ويصبّ في البحر الأسود بعد مسيرة يجتاز خلالها عشر دول متعاقبة بلا جواز سفر، وعلى ضفافه ترتفع مآذن وأبراج كنائس ومعابد من طوائف عدة. استمر الدانوب في التدفق الحر عبر الأقاليم حتى في الحربين العالميتين – وهما حربان أوروبيتان في الواقع – وبعدهما أيضاً عندما انشقت أوروبا إلى قارتين يفصلهما ستار حديدي ظل رمزاً للحرب الباردة.

 

وفي فيينا، عاصمة الإمبراطورية النمساوية البائدة، كانت آخر ليالي رمضان المباركة استثنائية. فعلى ضفة الدانوب احتشدت آلاف مؤلفة من المسلمين والمسلمات لأداء صلاة التراويح التي تمتد بهم كالعادة حتى انتصاف الليل. لم يكن المركز الإسلامي المشيد في نهاية السبعينيات مؤهلاً لاستيعاب النمو العددي القياسي في تعداد المسلمين في عاصمة النمسا. يقتطع المسلمون هنا حصة قوامها عشرة في المائة تقريباً من ديموغرافيا المدينة، لكنّ تمثيلهم ضمن المواليد الجدد قياسي للغاية، علاوة على أنهم أكثر حضوراً ضمن فئات الطفولة والشباب، وباتوا إجمالاً في مرمى الإسلاموفوبيا التي تتأجج تعبيراتها في التغطيات الإعلامية والمزايدات السياسية.

 

ملأت صفوف الشباب المسجد في داخله، وتوسّعت إلى الساحات الخارجية لأداء الصلاة في الهواء الطلق. لكنّ أصداء المهرجان الضخم المقام في جزيرة الدانوب المجاورة لم تترك طبلة أذن من المصلين إلا وقرعتها بقوة، فكيف إن كانت موسيقى التكنو مثلاً؟!

 

انبثق هذا اللون الموسيقي في أواخر الثمانينيات لتنشأ معه ثقافة شبابية ينغمس فيها بعضهم حتى آذانهم التي تتدلّى منها أسلاك السماعات الشخصية في الطرقات والمواصلات العامة. ومن خصائص هذا اللون استعماله الموسيقى الصاخبة التي يقع توليفها إلكترونياً مع اختزالية مفرطة في اللحن الذي لا يحتمل أكثر من نبضات موسيقية نمطية تتخللها ضربات إيقاعية قوية لتهتزّ الأبدان انفعالاً معها. وفي التبسيط والاختزالية تختبئ روح بداوة تلجأ إلى هذا اللون المتمرد على الإرث الكلاسيكي الأوروبي، الذي كانت فيينا والنمسا من محطات تطوّره مع أعمال شهيرة لشتراوس وموتسارت وبيتهوفن وغيرهم.

 

تنجح ثقافة التكنو في إدخال ملايين الشباب الأوروبي كل نهاية أسبوع إلى فقاعة من النشوة الإيقاعية النمطية التي تمتد ساعات طويلة، ثم يستغرق هؤلاء في عالمها الصوتي خلال مواسم الاصطياف، كما يجري في جزيرة مايوركا الإسبانية مثلاً، قبلة الألمان الأشهر. وإن بدت هذه بداوة موسيقية إن قورنت بألوان أخرى انعقدت لها مواسم ومهرجانات تقليدية؛ فإنّ التكنو تحيل الحشود المتراصة في فضاءاتها إلى تروس دوارة على نحو نمطي. تغيب الروح هنا، ويتلاشى الإنسان في منجزه التقني السمعي الذي يهيمن عليه.

من بين الحشود الجامحة للاغتراف من مباهج الحياة، انفلتت ساندرا بهدوء لتأوي إلى فضاء المسجد المفتوح كي تعايش شباناً وشابات في مثل عمرها وهم يختتمون شهراً مديداً من الصيام والعبادة، يتخلل كل يوم منه ثماني عشرة ساعة من التحكم بالذات

ليس هذا على أي حال هو ما يثير شغف ساندرا (تم تغيير الاسم) التي جاءت أساساً لتنخرط في حشود المتراقصين على إيقاعات التكنو، ثم وجدت نفسها مأخوذة بسكينة الصفوف المتواصلة لأداء التراويح ليلة التاسع والعشرين من رمضان.

 

انسلّت الشابة النمساوية من حشود التكنو بعد أن ساقتها روحها التوّاقة إلى مقامات علوية. هنا آلاف مؤلفة من الشبان والشابات في مثل سنها، يصطفون في سكينة، ينصتون بخشوع إلى تلاوة عطرة من كتاب الله، ويسجدون لله طلباً لسموّ لا تتيحه منصّات الغناء في الجزيرة النهرية التي تحظى برعاية شركات كبرى تتحرى مصالحها وأرباحها مع الأجيال الجديدة. وعلى أطراف الجزبرة تتراصّ سيارات الإسعاف لاستقبال من أفرطوا في شرب الكحول التي لا يكتمل المشهد إلا بها. تستهلك جماهير المهرجان نهراً من الخمر والجعة، علاوة على سوق رائجة للمؤثرات العقلية مثل أقراص الخلطات المخدرة التي تتفشى في الموسم.

 

من بين الحشود الجامحة للاغتراف من مباهج الحياة، انفلتت ساندرا بهدوء لتأوي إلى فضاء المسجد المفتوح كي تعايش شباناً وشابات في مثل عمرها وهم يختتمون شهراً مديداً من الصيام والعبادة، يتخلل كل يوم منه ثماني عشرة ساعة من التحكم بالذات والإمساك بزمام النفس ثم الاصطفاف للصلاة والدعاء.

 

مكثت ساندرا طويلاً ترقب المشهد المهيب، وأدركت بعد أن تماهت معه وجدانياً أنّ عليها ستر بدنها توقيراً للمكان، فجادت شابة مسلمة عليها بقطعة قماش زاهية تحقق الغرض. بدأت قصة ساندرا هنا، من ليلة ليست كغيرها، قررت معها أن تعيد تقييمها للحياة ومغزى الوجود ووجهة الرحلة الأرضية وما بعدها.

 

سلكت الشابة النمساوية سبيل العودة مع انتصاف الليل، حاملة روحها المتألقة بدل قارورة الجعة. وجدت موطئ قدم بصعوبة وسط الزحام في خط المواصلات العامة الذي يربط الموقع المكتظ بالحشود مع مساكنهم في أرجاء فيينا وخارجها. ثمة فرز بصري لا تخطئه العين في قطار الأنفاق الذي أقلّها، بين سيول العائدين من منصات التكنو الصاخبة الذين أطلقوا العنان لأذرعهم، وأفواج الركع السجود من الشابات والشبان الذين رفعوا أكف الضراعة إلى بارئهم، ولعلها شعرت بأنها وحدها تقريباً من ينتمي إلى الفريقين المتداخلين بود واحترام متبادل في المقطورات التي تحاكي علب السردين.

 

انطلق بها القطار في رحلة بدأت من ليلة التاسع والعشرين من رمضان، ولم تنته محطاتها بعد. ساندرا وجه واحد من جيل أوروبي يبحث عن ذاته بين الأرض والسماء، ويتوق إلى سجدة لله تعالى يحقق فيها ذاته كما لا تتحقق مع تروس التكنو التي تدور حول الذات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.