الأكثر طرافة وغرابة، أنه إذا كانت الأوضاع السائدة في العالم الثالث وتحديدا في بؤر التوتر، حيث الاقتتال والتناحرات العقدية والصراعات متواصلة فوق خرائط الدخان الأسود، فإن الأسواق العالمية غير المحدودة ونمط نظامها الاستهلاكي، حاضرة بقوة حتى في قلب هذه الحروب. |
ففي نهاية المطاف، وبالبداهة، نعلم جيدا أن كل هذه التلاقحات والتداخلات في الموسيقى والأكل ومشاهد الفرجة التلفزية، هي وليدة الزحف العنيد والمتواصل، لأيقونات الثقافة الغربية الاستهلاكية، وتسللها الممعن في السيطرة على باقي أطراف العالم.
نظام عالمي مهيمن متطلع إلى خلق بيئة استهلاكية نمطية، أحادية الاتجاه، تفصلها على مقاسها قوى رأسمالية اقتصادية لوجستيكية، تستهدف التكامل والضم الشامل، لكن ما زال بعيدا عن قبضتها السلسة.
بيئة اصطناعية بامتياز، تحشر البلدان الأكثر عرضة للاختراق والبطيئة في النمو الاقتصادي، في مجمع كبير ذي بعد عالمي، مطوق كليا بإرسالات الأقمار الصناعية ومعرض باستمرار لتدفق مكثف لللسلع ومقنبل بالمنتوجات المرئية الخارجة، توا، من علب الإعلانات الاستعراضية.
فتح الحدود للأسواق العالمية وإدراج التسهيلات الجمركية في جدول ضبط ومراقبة السلع الواردة، كما حدث في في المغرب مثلا سنة 1994 بعد توقيع اتفاقيات مراكش الشهيرة لتحرير التجارة الدولية، كان بداية فعلية لإقتحام السيادات الاقتصادية الوطنية من أبوابها المشرعة وإضعافها وفسح المجال أمام الثقافة المالية الاقتراضية الدخيلة، الموجهة لدعم الاستهلاك وما يواكبها ويدعمها من توجيهات ووصايا، مُمْلاة من المؤسسات الدولية والمنظمات التجارية الرأسمالية، واللوبيات العابرة للبلدان والشركات المتعددة الجنسية.. هؤلاء صاروا الآن، اللاعبون الجدد في عالم لا تقوى فيه دول ما يسمى بالعالم الثالث على حماية ديناميكة اقتصادها المحلي، فضلا عن ردع شراهة تلك الرساميل المتنقلة بين القارات، بحثا عن فضاءات الربح السريع والمنافسة الشرسة.
بالإضافة إلى أن الأسواق الخارجية المنمية للاستهلاك العالمي الموحد، باتت تفرخ أنماطا من المعيشة والسلوك الكوني، متشابهة ومتناسخة، محمولة على صبيب الصور الإلكترونية، الذي صار يغذي مزيدا الأذهان والمخيلة الجماعية بكل شيء افتراضي مفتعل. فتجد حتى أنماط الحياة المهنية المعاصرة صارت تتوحد وتتقلص في اتجاه وجهة كوسمبولوتية واحدة:
فربابنة الرحلات الجوية بين المطارات العالمية ومهندسو الحواسيب ومبرمجوها والفنانون السينمائيون والمستثمرون في البورصات العالمية ونجوم الأغاني والرياضة، ومستخدمو الهيئات الدولية الديبلوماسية وأثرياء البنوك وممثلو الشركات العالمية، ومديرو فروعها المتشابكة جغرافيا في منطقتنا الأكثر تخلفا؛ هؤلاء صاروا تقريبا يشكلون فئة متشابهة ومنسوخة عن الأصل بفعل العولمة أولا، وثانيا لأنهم يدركون أن الانتماء العرقي والديني والثقافي شيء ثانوي، أمام قوة الشعور المتضخم بانتمائهم المهني العالمي..
وبخلاف طرائق الأيديولوجيات التقليدية في طرح القيم وإبرازها، تسعى قوى الأسواق الدولية المحمولة على أمواج تسارع العولمة، إلى إثارة حساسية ثقافية استهلاكية من ضرب آخر، عبر سلسلة من المنتجات الفنية الصناعية التي تم تحجيمها إلى مستوى السلعة، والمروجة بكثافة في الشعارات والماركات والمدرجة في بيانات الفواصل الإعلانية، وهذا ما يؤهلها لتبقى بدون منافسة حقيقية، وأكثر نفوذا وفعالية في فرض قيمها والتمكن بسرعة من تسريبها إلى الجموع في كل مكان.
تفوق مجادف التجارة في دفع الاكتساح الاقتصادي الموجه للاستهلاك، على كل العراقيل، حتى لو خرجت من أراضي الموت والوبار. وهذا يمنح مالكي وسائل الإعلام، والمشرفين على بث وصنع الفرجة، تفويضا تاما في وضع تخطيطات تسويقية لأشباه المنتجات الثقافية. |
فالأشرطة والإعلانات والدعايات وما يصحبها من لوازم الترفيه والتسلية وملء وقت الفراغ مثلا، تتحول إلى وسائل ناجعة في تسويق أذواق وأساليب غذائية منمطة، واختيارات في الألبسة شبه مستنسخة، كلها تفيض علينا من خزائن ذلك العالم الآخر المذهل، وتعمل بنعومة على ترسيخ إيقاع جديد للحياة، تطغى عليه بشكل متزامن دورات التحفيز والإثارة في الاقتناء والاستهلاك، ويجري في اتجاه واحد مطوق غالبا بطقوس الموضة اللعينة ومواسمها الميكانيكية المتلاحقة.
وليس ما يباغت فقط (أي مراقب متتبع لهكذا تصادم اقتصادي طارئ، له آثار بينة على سطح رقعتنا الاجتماعية)، نزوع هذه الأسواق دوما إلى توحيد تجانسها ووتيرتها في ظل النظام الاستهلاكي الحديث، بل الأكثر طرافة وغرابة، أنه إذا كانت الأوضاع السائدة في العالم الثالث وتحديدا في بؤر التوتر وما جاورها جغرافيا؛ حيث الاقتتال والنزاعات والتناحرات العقدية والصراعات الأهلية متواصلة فوق خرائط الدخان الأسود، فإن الأسواق العالمية غير المحدودة ونمط نظامها الاستهلاكي الفتاك، حاضرة بقوة حتى في قلب هذه الحروب، موهمة حشود البسطاء المجردين، أصلا، من هوية الاستقرار، أنها بصدد إقامة طمأنينة وجلب آمان وسلم من نوع آخر.
هذا يؤكد لنا بشكل صارخ، تفوق مجادف التجارة في دفع الاكتساح الاقتصادي الموجه للاستهلاك فقط، على كل العراقيل كيف ما كانت، حتى لو خرجت من أراضي الموت والوبار. وهذا يمنح مرة أخرى مالكي وسائل الإعلام وشبكات الاتصال، والمشرفين على بث وصنع الفرجة العالمية، تفويضا تاما في وضع تخطيطات تسويقية لأشباه المنتجات الثقافية، التي تتوسع مزيدا لتعزز، تاليا، السيطرة الكاملة على ما تبقى من هوامش تعدد الثرات البشري.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.