ليست المرة الأولى ولكنها الأقسى! فإن كان خد رئيس الوزراء الباكستاني، نواز شريف، قد تعوّد على لطم الانقلابات والعزل، لكن تلك لم تكن مثل هذه المرة التي تعتبر الأطول له في سدة الحكم، فبعد أكثر من أربع سنوات قضاها في رئاسة الوزراء للمرة الثالثة، عمل خلالها شريف جاهداً على تجاوز الحقب المريرة التي مرت على باكستان في مرحلة ما يسمى الحرب على الإرهاب، حيث كانت تعاني أيام مشرف من رهاب الانفجارات المتتالية التي تنفذها جهات كثيرة تتصارع في باكستان وأفغانستان لا تنحصر في طالبان الباكستانية ولا عملاء البلاك ووتر، مرت حقبة زرداري كأسوأ مرحلة تعيشها باكستان في تاريخها.
كانت الميزانية تمرر في البرلمان ثم تختفي مع اختفاء الكهرباء لمدة اثنتي عشرة ساعة يومياً في عاصمة دولة نووية تصنف بين الأجمل من عواصم العالم وتصل إلى ثمانية عشر ساعة من الانقطاع في المدن الصغيرة والأرياف. ولم تقم حكومة زرداري آنذاك بأي جهد يذكر للإصلاح في خضم السيول والفيضانات العارمة التي كانت تسوق قرى باكستان من أقصاها إلى أقصاها وترميها في بحر العرب.
بحر العرب هذا هو مربط الفرس، فمن ميناء (جبل علي) جاء طوق النجاة للمعارضة الباكستانية التي حاولت جاهدة خلال السنوات الأربع الماضية عزل شريف وحزبه الذي اكتسح الانتخابات بالأغلبية المريحة وبرز كحزب أوحد أرضى شيئاً من تطلعات الناس، فرفع احتياطي النقد الأجنبي من أقل من مليار واحد من الدولارات تركتها حكومة زرداري في البنك المركزي وهو أدنى معدل في تاريخ البلاد إلى 23 مليار دولار من الاحتياطات وهي أعلى معدل في تاريخ البلاد الذي يمتد 70 عاماً.
لجأت المعارضة للإمارات التي كانت أكبر الرابحين من اعتصامات عمران خان حيث هرب أكثر من 45 مليار دولار إلى بنوك دبي وهو رقم معادل لما أدخله نواز من الاستثمارات عبر طريق الحرير |
وها هو شريف يغادر منصبه مخلوعاً أو (مستقيلاً) بحسب الحزب بعد أن تراجع انقطاع التيار الكهربائي إلى ساعة واحدة أو اثنتين في اليوم حسب الموسم ورفع معدل النمو إلى إجمالي الناتج المحلي من 2 بالمئة أيام حكومة حزب الشعب إلى 6 بالمئة وهو الأعلى في تاريخ البلاد أيضاً ويكفي أن نعلم أن بلاد المئتي مليون نسمة تحتاج إلى نمو يقدر بـ 7 بالمئة لتقضي على البطالة وتستوعب كافة الشباب الداخلين في سوق العمل وكان شريف على أعتاب هذا المعدل في ميزانية هذا العام الذي من المفترض أو يودع في آخره انقطاع الكهرباء بل ويصدّر منها، مع تنفيذ عدد كبير من المشروعات العملاقة في إطار الممر الاقتصادي الصيني أو ما يعرف بطريق الحرير وما زال عدد آخر قيد التنفيذ في حين أن المشاريع التي لا تزال قيد الدراسة هي 17 فقط كان من المقرر أن تحول باكستان إلى نمر آسيوي جديد بعد أربع سنوات من تصنيفها كأحد أسوأ دول العالم أداء من الناحية الاقتصادية.
ميناء غوادر الذي يرتبط بسبع مشاريع كبيرة على بحر العرب والذي يشكل درة طريق الحرير هو ما أغضب الساسة القابعين على الضفة الأخرى على الأرجح لأنه يشكل تهديداً مباشراً "لجبل علي" الذي يقع داخل مضيق باب السلام.
حاولت الإمارات كثيراً إيقاف هذا المشروع منذ البدء فيه عام 2014م عبر دعم المعارضة التي حاصرت منزل شريف لأربعة أشهر ونصبت خيامها في بهو البرلمان والمنطقة الحمراء، ثم حاولت إيران التخريب على هذا المشروع عبر تطوير ميناء شابهار وتسليمه للهند بشكل كامل وهي العدو التقليدي لباكستان لجعل إيران الممر الآسيوي إلى دول وسط آسيا والقوقاز وليس باكستان وذلك عبر بحر العرب ذاته من ميناء مومباي إلى شابهار.
ارتدت كل تلك المشاريع على عقبيها ومضت مشاريع الطاقة الكهربائية البديلة بسرعة عالية تجاوزت سرعة إنشائها في الصين والولايات المتحدة كحال محطة (ساهيوال) لتوليد الطاقة بالفحم التي تم إنشاؤها في أقل من سنتين ودخلت موسوعة غينس كأسرع محطة كهربائية تم بناؤها. كما أنه كان من المقرر صبيحة اليوم التالي لعزله أن يفتتح مشروعاً آخر للطاقة الكهربائية وفي الرابع من أغسطس آب محطة ثالثة يبلغ مجموعها أكثر من 3000 ميغاواط.
كان يلوح في الأفق أمام المعارضة وفريق التحقيق في قضية بنما أن نواز شريف الذي قدم نفسه وأتى بأولاده من الخارج وقدمهم للتحقيق أمام فريق مشكل من موظفيه من البنك المركزي و البورصة والمحكمة والاستخبارات، لأنه كان متأكداً من براءته ونظافته ساحته، كان يلوح لهم أنه سينجو رغم ما جاء في تقرير فريق التحقيق من الشتائم والإهانات لشريف وأبنائه حيث قرن اسم كل واحد منهم بوصف مسيء عند ذكره كقولهم (مريم المخادعة) و (حسين المتردد) و (شهباز الذي لا يوثق به) وما إلى هنالك ما يجعلها سرداً روائياً لضرائر في منزل فضلا عن تقرير يجب أن يكون حيادياً، ورغم ما قام به الفريق من تسريب صور لهم أثناء جلسات التحقيق لإسقاط الهيبة والشخصية.
لجأت المعارضة للإمارات التي كانت أكبر الرابحين من اعتصامات عمران خان حيث هرب أكثر من 45 مليار دولار إلى بنوك دبي وهو رقم معادل لما أدخله نواز من الاستثمارات عبر طريق الحرير. كما كانت الإمارات المتضرر الأكبر من ميناء غوادر. أرسل فريق التحقيق خطاباً للإمارات يستخبر عن أملاك شريف وما إذا كان له دخل منها لم يخبر به المحكمة. كان خطاب الفريق قد أرسل ليلة العيد في الإمارات فيما لم تكن ليلة العيد في باكستان.
باكستان تنتظر مستقبلاً مجهولاً على يد المغامرين الصاعدين، والذين بطبيعة الحال تحن قلوبهم إلى طهران ولندن ولا يملكون أي تعاطف مع العرب والمسلمين وقضاياهم. |
ومن المفترض لهذه الخطابات أن تأخذ إجراءاتها أسبوعاً على الأقل، لكن يبدو أن الرد كان جاهزاً هناك حيث وصل عشية يوم العيد الأولى فيما يفترض أن يكون إجازة في دبي. كان نواز رئيساً فخرياً لشركة يملكها ابنه حسن في دبي وظل يتقاضى مها راتباً عبر حسابه البنكي في دبي إلى عام 2014م أي بعد عام كامل من وصوله للسلطة. وهذا الراتب أخفاه عن عيون الجهات الضريبية لأن محاميه ادعى أنها كانت وظيفة فخرية ولم يكن يسحب هذه الرواتب. لم تستطع هيئة المحكمة رد هذا الدليل الصارخ فقضت بعزل نواز شريف وإحالته للمحاسبة مع أبنائه مما يفتح باباً واسعاً أمام الحكام القادمين قد لا ينجو به أحد منهم إذا كانت العملية دستورية وليست مؤامرة تبحث عن ذريعة.
ربما يستلم الأخ الشقيق الأصغر لنواز (شهباز شريف) رئاسة الحزب والحكومة في انزياح للسلطة من عائلة نواز إلى عائلة الأخ شهباز الذي يرشح ابنه حمزة لرئاسة حكومة البنجاب، فيما لم يتقرر بعد إذا ما كان عزل نواز نهائياً ومدى الحياة أم لا رغم أن المعارضة تدّعي ذلك، فإن استطاع شهباز الحفاظ على مكتسبات الحزب ووحدته فقد ينقذ البلاد من العودة لما كانت فيه والاستمرار بالشراكة الباكستانية مع الصين وتركيا واتخاذ موقف صديق من القضايا العربية رغم معارضة الجيش والبرلمان، أو أن باكستان تنتظر مستقبلاً مجهولاً على يد المغامرين الصاعدين، والذين بطبيعة الحال تحن قلوبهم إلى طهران ولندن ولا يملكون أي تعاطف مع العرب والمسلمين وقضاياهم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.