مشروعان يحاولان السيطرةَ على المشهدِ السياسي في ليبيا اليوم. مشروعُ بعثةِ الأمم المتحدةِ مُتمثِلاً في مُخرَجاته (المجلس الرئاسي، مجلس الدولة، حكومة الوفاق، والوزراء المفوضين.. إلخ)، ومشروع ما يسمى بالكرامة وأجسامه السياسية (البرلمان، الحكومة المؤقتة، وما يتبع ذلك). وبالرغم من الاختلاف الجوهري بين المشروعين، فمشروع البعثة يعتبر مشروعا مدنيا، بينما يعتبر مشروع الكرامة مشروعا عسكريا، ومع هذا الاختلاف الجوهري -ظاهريا على الأقل- إلا أن المشروعين متشابهان في كونهما مشاريع ذات امتدادات أو أصول أو خيوط خارجية. فالمجلس الرئاسي ومجلس الدولة، وما ينبثق منها، هما نتاج لبعثة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو المجتمع الدولي (مع غموض هذا المصطلح) بالتعاون مع بعض الشخصيات الليبية.
كما تكتسب "الكرامة" وجودَها أو استمراريتها أو قوَّتَها من قوى خارجية إقليمية وغربية بالتعاون هي أيضا مع مجموعة من الليبيين. ويجب التنويه هنا بأن البعض ينظر إلى عملية الكرامة كعملية مؤقتة ذات مهام محددة ومحدودة، تنتهي بإنجاز مهامها. والبعض الآخر ينظر إليها كمشروع استراتيجي ينتهي بإعادة الحكم العسكري في ليبيا. المشترك الرئيسي بين المشروعين -إذا- هو الارتباطات الخارجية، وذلك أهم أسباب فشلهما وتخبُطِهما في إخراج ليبيا من أزمتها الأمنية والسياسية والاقتصادية. فبسبب تلك الارتباطات أو الامتدادات أو الالتزامات الخارجية، فقد المشروعان قوة وحرية صناعة القرار، وفقدا أيضا الاستقلالية في زحمة ملفات ثانوية (نسبيا) فرضتها بعثة الأمم المتحدة على المشهد الليبي.
سيكون من أشرسِ الشخصيات ضدَ المشروع الوطني أولئك الذين يتحسسون من المشاريع الوطنية الداخلية، ويشعرون بأن كراسيَهم أو مكاسبهم أو مصالحهم أو أحزابَهم أو توجهاتِهم قد تتأثر أو تهتز. |
المجلس الرئاسي وعملية "الكرامة"، وأجنحتهما، لا يستطيعان التحرك أو التقدم أو المبادرة أو إصدار القرارات دون أن يلتفتا إلى من دعمهم -من الخارج – إعلاميا وسياسيا وعسكريا وأمنيا. وهنا بيت القصيد. المشروعان مكبَّلان، يفتقدان لحرية الحركة في أكثرِ القضايا الداخلية حساسية. لذلك لن يستطيعا إخراج ليبيا من أزمتها بل إن وجودهما واستمرارهما بهذه الصورة سيزيد من تفاقم الأزمة على جميع المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية. زد على ذلك أن المرحلة التي تمر بها ليبيا (مرحلةَ ما بعد الثورة) لا يناسبها المشروعان. بل يناسبها مشروع وطني داخلي، خاصة وأن المرحلة في الواقع قد اختُطفت وتَحولت من "مرحلة ما بعد الثورة" أي مرحلة بناء، إلى "مرحلة انقلاب على الثورة" أي مرحلة حرب، مما زاد من فشل المجلس والكرامة.
الغائب -إذا- هو مشروع وطني داخلي مُتحرِر من الارتباطات الخارجية، مشروع يضم جميع القوى السياسية الليبية (المدنية والعسكرية) التي تدعم قيام دولةٍ مَدَنية، بكل إيجابيات الدولة المَدَنية (دولة القانون، دولة المؤسسات، حرية الرأي، التعددية السياسية، تبادل السلطة سلميا، فصل السلطات، إلخ). وأكرِّر هنا، أنَّ المشروع لابد أن يشمل جميعَ القوى السياسية الليبية التي لا تمانع في تأسيس دولة مدنية دون تهميش أو تجاهل أو تجاوز لأية فئة أو شريحة أو مجموعة، مهما كان انتماؤها الفكري أو السياسي أو الحزبي أو الجهوي أو القبلي أو العرقي، وبصرف النظر عن التيار الذي تنتمي إليه، بما في ذلك الذين يؤمنون بالمشروعين الآخرين. فمن الإنصاف أن نذكر أن شريحة من أنصار المشروعين (من أعضاء البرلمان ومجلس الدولة وأعضاء من الأجسام السياسية والعسكرية التي تتصدر المشهد السياسي حاليا)، يمكن استقطابها وضمُّها إلى المشروع الوطني.
ولا شك أن المشروع الوطني الداخلي، سيواجه عديد الصعوبات والعوائق والعراقيل:
ويتمثل العائق الأول في: أن الأطراف التي طرحت مبادرات أو مشاريع أو مقترحات بعيدةً عن تأثير وتدخلَ وتوجيه الخارج، لا تعمل كفريق واحد، بل غاب عنها أحيانا حتى التنسيق الجاد، بالرغم من تطابق وتماثل وتقارب الأهداف الرئيسة بينهم. بل وقد بلغت درجةُ التقارب مبلغا يمكن على ضوئه تحديدُ سقفٍ أدنى من الأهداف المشترَكة التي يمكن أن تجتمع عليها كافةُ الأطراف.
لا يجب أن يُفهم بأن المشروعَ المُتحرِرَ من الارتباط الخارجي يعني بالدرجة الأولى عدمَ التعاون مع المجتمع الدولي فيما يخص المصالح المشتركة، وبناء جسور من العلاقات الاقتصادية والسياسية العادلة. |
ويتمثل العائقُ الثاني في: تشتُتِ الثوار أو حمَلةِ السلاح من الذين يؤمنون ببناء دولة مَدَنية بعيدةٍ عن الارتباط الخارجي، ما يُحتم ضرورةَ جمْعِ هذه القوى -مؤقتا على الأقل- تحت سقفٍ أدنى من الأهداف.
أما العائق الثالث فيتمثل في: أنصار المشروعَين السابقَين (الرئاسي والكرامة، مع الفارق بينهما) بما في ذلك بعثة الأمم المتحدة ومخرجاتُها، وداعمو الكرامة (السعودية ومصر والإمارات وغيرهم)، أنصار هذه التوجهات سيعملون -بكل تأكيد- على عرقلة البديل الوطني.
كما سيكون من أشرسِ الشخصيات ضدَ المشروع الوطني أولئك الذين يتحسسون من المشاريع الوطنية الداخلية، ويشعرون بأن كراسيَهم أو مكاسبهم أو مصالحهم أو أحزابَهم أو توجهاتِهم قد تتأثر أو تهتز إذا ما أيدوا أو دعموا أو التحقوا ببدائل أخرى. هؤلاء لا يقيسون البدائل المطروحة بصلاحيتها أو عدم صلاحها للوطن.
ويتمثل العائق الرابع في: تردد أصحاب المبادرات الوطنية في وضع مبادراتهم حيِّزَ التنفيذ. فالجانب العملي مفقود. أصحاب أغلب المبادرات الداخلية الوطنية، يكتفون -غالبا- بالجزء النظري (إعداد المبادرة، الاجتهاد في بنودها، عرضها على الآخرين، استشارة النخب، الإعلان عن المبادرة، دعوة الناس للالتحام بها، والالتفاف حولها، وتشجيعها، وتبنيها.. إلخ)، ثم ينتهي الأمر عند هذا الحد. المبادرات أو المقترحات أو المشاريع تحتاج إلى أن تترجم إلى واقع عملي، عندها نستطيع أن نطلب من الناس تبنِّي المبادرات أو الانضمام إليها أو دعمها.
ومن جهة أخرى لا يجب أن يُفهم بأن المشروعَ المُتحرِرَ من الارتباط الخارجي يعني بالدرجة الأولى عدمَ التعاون مع المجتمع الدولي فيما يخص المصالح المشتركة، وبناء جسور من العلاقات الاقتصادية والسياسية العادلة. كذلك لا يجب أن يُفهم أن تأسيس قوى عسكرية تضم الذين يؤمنون بالبديل الوطني الداخلي، يعني إعلان الحرب أو التصادم أو القتال مع قوى أخرى تدعم المشروعين السابقين. بل إن المراد من تجميع القوى السياسية والعسكرية الداعمة للمشروع الداخلي هو خلقُ حالة من التوازن وإيجاد موقعِ قدمٍ في المشهد السياسي.
على القوى الوطنية بمختلف فئاتها وانتماءاتها والتي استشعرت خطورة الأزمة في ليبيا أن تتجمع حول "حد أدنى" من الأهداف المشتركة تضمن على الأقل تأسيس دولة مدنية. |
وقد يتساءل البعض قائلا، لماذا لا نكتفي بمشروع البعثة الأممية طالما أنه يهدف (نظريا على الأقل) إلى تأسيس دولة مدنية؟ والفارق بين أن نؤسس دولتنا المدنية بمشروع وطني خالٍ من الرعاية أو الوساطة أو الارتباط بالخارج، ومشروع وطني ذي ارتباط خارجي، هي الأولويات. فالمشروع الوطني ستكون أزمة المواطن والوطن على قمة أولوياته، بينما ستكون لبعثة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو المجتمع الدولي أولويات أخرى.
وللأسف فإن أولويات المجتمع الدولي لم ولن تصُبَّ في مصلحة ليبيا، بل إن الفشل في تبني الأولويات الوطنية هي التي أدخلت البلاد في أزماتها حتى وصلنا إلى هذا النفق المظلم المغلق. الأولويات -إذا- تُشكل فارقا كبيرا، بل فارقا مصيريا.
وهكذا..
على القوى الوطنية بمختلف فئاتها وانتماءاتها والتي استشعرت خطورة الأزمة في ليبيا أن تتجمع حول "حد أدنى" من الأهداف المشتركة تضمن على الأقل تأسيس دولة مدنية. وعلى هذه القوى أيضا، أن تترجم مبادراتها إلى واقع عملي، ولو ببداية متواضعة، وأن تفرض إرادتها سلميا على أرض الواقع، وبذلك ستضمن ليبيا إبعادَ شبحِ عودةِ العسكر على الأقل. وسنضمن أيضا الاهتمام بأولويات المواطن والوطن، خاصة وأن الكتلة التي ترفض حكم العسكر، أكثر وأقوى سياسيا وعسكريا. والله ولي التوفيق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.