شعار قسم مدونات

المحاججة بمفهومها القرآني

blogs قرآن
إن الوحي الإلهي المتمثل في الكتب المقدسة هو الأمانة التي حملها الإنسان من دون الكائنات وبها فُضِّل عليها، واستُخلِف في الأرض. وبما أن العقول متفاوتة ومحدودة ومختصة بالعلوم المادية والفكرية من دون الحقائق الغيبية، أرسل الله الرسل وأنزل معهم الكتب؛ ليرشدوا الناس إلى الحقائق الإيمانية الغيبية. ومن الحكمة الإلهية أن تلكم الكتب ضمت حججًا وبراهين ودلائل قطعية ملزمة للإيمان بها، كما قال تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء: ١٦٥. تدل الآية بمنطوقها على أنه لا تكليف إلا بعد إرسال الرسل، وإقامة الحجة الواضحة اليقينية.

وبما أن الرسالات اختتمت بالقرآن الكريم فقد حوى أسمى أساليب البلاغة الحجاجية، إذ ضمت في أسلوبها الحجاجي مع المخالفين الحجج الجدلية، والبراهين العقلية، والأقيسة المنطقية بأساليب خطابية تناسب المستويات المختلفة، والطبقات المتفاوتة بحيث يحس كل طبقة أنها هي المعنية من الخطاب. فقد حاجج الشعراء وأهل اللغة بما يتقنونه من الفنون اللغوية، وحاجج أهل الكتاب بما يجدونه مكتوبًا في كتبهم، وحاجج الفلاسفة ببرهنة الحقائق الإيمانية بحجج جدلية عقلية، وأقيسة منطقية ملزمة لهم، وحاجج العرافين والكهان بإخبار غيبية غائبة عنهم، وما زالت حججه تتجدد يومًا بعد اليوم، فقد برهنت الآيات العلمية الإعجازية فيه أن الاكتشافات العلمية الحديثة تزيد القرآن رسوخًا في الإعجاز والمحجة.

القرآن مملوء من الحجج والأدلة والبراهين في مسائل التوحيد، وإثبات الصانع والمعاد، وإرسال الرسل، وحدوث العالم، فلا يذكر المتكلمون وغيرهم دليلًا صحيحًا على ذلك إلا وهو في القرآن بأفصح عبارة.

إن القرآن الحكيم يخاطب كل طبقة من طبقات البشر في كل عصر من العصور، وكأنه متوجه توجهاً خاصاً إلى تلك الطبقة بالذات. وعلل سعيد النورسي افتراءات المشركين على القرآن، ومحاربتهم للمسلمين بعجزهم عن معارضته بالحجج والبراهين، إذ قال في المكتوبات: "فلو كانت المعارضة ممكنة لما اختار أولئك الكفار طريق الحرب والدمار ويلقون أنفسهم وأموالهم وأهليهم إلى التهلكة، ويَدَعون طريق المعارضة القصيرة السهلة. فالمعارضة غير ممكنة وليست في طوق البشر. إذ هل يمكن لعاقل فطن -ولا سيما أهل الجزيرة العربية ولا سيما قريش الأذكياء- أن يُعرّض نفسه وماله وأهله للخطر، ويختار طريق الحرب والدمار إن كان باستطاعته سلوك طريق المعارضة ولو بسورة من القرآن من أديب منهم، فينقذ نفسه وماله من التحدي القرآني، إن كان إتيان مثله سهلاً ميسوراً". فلما حاججهم القرآن بما يمتلكون من مواهب وألزمه الحجة، وثبت عجزهم عن المحاججة اضطروا إلى المقارعة بالسيوف.

وقد صرح بوجود الحجاج في القرآن الكريم العلماء المتقدمون والمتأخرون، وقد صنف بعضهم مصنفات في ذلك. وقد شدد ابن القيم الجوزية النكير على من أنكر الحجاج في القرآن، إذ قال في مفتاح دار السعادة: "يظن جهال المنطقيين وفروخ اليونان أن الشريعة خطاب للجمهور ولا احتجاج فيها، وأن الأنبياء دعوا الجمهور بطريق الخطابة. والحجج للخواص وهم أهل البرهان يعنون أنفسهم ومن سلك طريقتهم، وكل هذا من جهلهم بالشريعة والقرآن، فإن القرآن مملوء من الحجج والأدلة والبراهين في مسائل التوحيد، وإثبات الصانع والمعاد، وإرسال الرسل، وحدوث العالم، فلا يذكر المتكلمون وغيرهم دليلًا صحيحًا على ذلك إلا وهو في القرآن بأفصح عبارة، وأوضح بيان، وأتم معنى وأبعده عن الإيرادات والأسئلة".

يدل الحجاج بمفهومه الاصطلاحي في القرآن الكريم على الحوار والخطاب الذي يراد به إبانة الحقائق الإيمانية، وإبلاغها بالأساليب الإقناعية التي ترشد إلى الهداية باستمالة قلب المخاطب إلى الحق.

أما بالنسبة لبيان مفهوم الحجاج في القران فلا بد من شرح ثلاث دلالات، هي:
1- دلالة جذر(ح.ج.ج) في القرآن الكريم: ورد جذر(حَ.جَ.جَ) ومشتقاته في القرآن الكريم في ثلاث وثلاثين موضعًا في سياقات متعددة، وبصيغ مختلفة، ولم تخرج عن مدلولاته اللغوية التي هي المخاصمة والمنازعة بقصد الضفر وإن مصدر الجذر هو (الحجاج) و(المحاجة)، غير أن الصيغ الواردة في القرآن الكريم جاءت بمدلول (المحاجة)، وهي على وزن (مفاعلة) أي: فيها معنى التفاعل، وهي تدل على المنازعة والمخاصمة .

2- دلالة (المحاجة) في القرآن الكريم: ثمة فرق كبير بين الدلالة القرآنية (المحاجة) والدلالة الاصطلاحية (الحجاج)، فبتتبع المظان القرآنية التي وردت فيها مشتقات جذر(ح.ج.ج) الدالة على (المحاجة) ظهر أنها تدل على معاني مذمومة كالمراوغة والتكبر، التعنت، فيقصد بـ(المحاجة) في الاستعمال القرآني المخالفة الناشئة عن الجدال والخصومة بالباطل بقصد العناد. ويتجلى ذلك بوضوح في إسنادها إلى الكفار في الآيات أغلبها. وثمة شواهد وفيرة، نذكر منها قوله سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) البقرة ٢٥٨. والذي حَاجّ إبراهيم كان كافرًا بدلالة السياق إذ اختتمت الآية (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وقوله: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) آل عمران: ٢٠، والآية (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ) الأنعام: ٨٠، وهذه الآيات كلها واضحة الدلالة على إسناد المحاجة إلى الكفار.

3- دلالة (الحجاج) في القرآن الكريم: يدل الحجاج بمفهومه الاصطلاحي في القرآن الكريم على الحوار والخطاب الذي يراد به إبانة الحقائق الإيمانية، وإبلاغها بالأساليب الإقناعية التي ترشد إلى الهداية باستمالة قلب المخاطب إلى الحق. وبرهنتها بالحجج العقلية، والأدلة الكونية المشاهدة، والأقيسة المنطقية، وإزالة الشكوك عنها، وتفند الشبهات المثارة حولها. وثمة ألفاظ وردت في القرآن الكريم بصيغ مختلفة لها علاقة بمفهوم الحجاج، وهي: الجدل (المجادلة)، والخصام (المخاصمة)، والنزاع (المنازعة)، والحوار (المحاورة)، والمراء (المماراة).

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان