يمكننا تعريف التكلّف الاجتماعي بسعي أناس معينين للعيش في مستوى معيشة أكبر من إمكانياتهم المادية سواء لوقت محدود أو دائم. ومن مظاهر هذا التكلف في المجتمع نذكر مثلا غلاء المهور والحفلات وكذلك كل ما يحمله الإنسان من لباس وإكسسوارات ينفقون فيها الكثير من مواردهم المادية أو يقترضون المال لشرائها قصد إظهارها للغير للتفاخر بها، ولعل أصل ظهور مثل هذه الظواهر يكمن عميقا في النفس البشرية؛ فحب الإنسان لنفسه وسعيه الفطري لإظهار أهميته داخل الجماعة يجعله دائما يتصرف بدواعي حب الظهور وجذب الاهتمام.
منذ أواسط القرن العشرين ومع بداية تطور الفكر الاقتصادي والتسويقي وظهور اقتصاد السوق في أمريكا وأوروبا، ظهرت عدة دراسات وأبحاث نفسية واجتماعية سعت لفهم السلوك الاستهلاكي للإنسان، الشيء الذي سمح للنظام الاقتصادي الرأسمالي باستغلالها للزيادة في أرباحه. لقد أكدت جل هاته الدراسات على وجوب تركيز اهتمام التجار والمعلنين والاقتصاديين على الطبقة المتوسطة في المجتمع الغربي كأكبر مستهدف للحملات التسويقية لزيادة استهلاكاتها لخلق دينامية أكبر للتجارة والاقتصاد في هذه البلدان، ويرجع ذلك لكونها تشكل نسبة هامة من ديمغرافية المجتمع الغربي، ولأنها طبقة تزداد باستمرار نظرا للزيادة التي عرفها الدخل الفردي لدى الكثير من العمال والموظفين في دول العالم المتقدمة.
وهكذا بدأنا نرى إشهارات وإعلانات استهدفت بالأساس الطبقة المتوسطة كان الهدف منها خلق عادات استهلاكية معينة لذا هذه الطبقة وتطبيعها عليها بحيث يصبح من شبه المستحيل التخلي على استهلاك هذه المنتجات، فكان الإشهار آلية حاسمة من أجل إثارة الرغبة وخلق الحاجة إلى الشراء ولعب الدور الأبرز والكبير في استمالة وكسب مثل هذه الطبقة السمينة والتي كانت تمتلك من موارد مادية ما يخولها للاستهلاك، فصارت السيارة ضرورية وصار امتلاك منزل كبير من الأساسيات التي ينبغي التركيز عليها كما صار امتلاك آخر هاتف ذكي في الجيب من الأمور الضرورية التي لا غنى عنها ناهيك على ارتداء الملابس الغالية واقتناء العطور الفاخرة والساعات الفخمة، كل هذه الأمور تم زرعها زرعا في العقل الجمعي للطبقة المتوسطة في أمريكا وأوروبا، لكي تكون المحرك الأول للإنفاق في الغرب.
أما في بلدنا الكسيح الذي لا نكاد نجد للطبقة المتوسطة أثرا فيه إلا بنسب قليلة جدا، شيء واحد جمعنا مع العالم الغربي في هذا الصدد ألا وهو طغيان الإشهار واكتساحه كل وسائل الإعلام والشوارع والمحلات والطرقات، ولأن الناس عندنا لا يملكون الكثير من المال لصرفه على الكماليات والإكسسوارات والسفريات والحفلات، يتم إغراؤهم بهواجسهم الكبرى "المنزل والسيارة"، لترى فسيفساء عجيبة من اللوحات الإشهارية التي تحمل عروض الحصول على قروض لشراء السكن أو السيارة، والشيء الذي أثار اندهاشي هو مدى تقبل الناس لمثل هذه العروض، بل وتهافتهم عليها، رغم ما تحويه أغلبها من شروط وإلزامات مجحفة في حق الطرف الذي سيقترض المال لشراء مسكنه أو مركبته، لكن سرعان مازال اندهاشي عندما تذكرت كل هذا الجهد والمال المبذولين من طرف هذه الشركات والبنوك لاستمالة أكبر عدد من الزبائن "الضحايا".
أنا لن أؤاخذ الناس على توجههم لمثل هذه المؤسسات للاقتراض، خصوصا لشراء عقار أو أصل تجاري يمكنهم فيما بعد من الاستفادة منه ماديا، لأنني أعلم يقينا بأنهم مجرد ضحايا غرر بهم عبر الاستهداف الإشهاري الضخم والمنظم والمكرر على مدى سنوات، وهم كذلك ضحايا لدولة ونظام لم يتمكن بعد من توفير السكن اللائق لغالبية مواطنيه ولم يتمكن حتى من توفير وسائل نقل لائقة تكون بديلة عن استعمال السيارة الشخصية، وهكذا اضطر الناس لخوض معارك خاسرة بين جشع رجال الأعمال وبين نفوسهم التواقة للتملك بطبعها. لكنني سأحاول أن أبين أن جل ما يدور في عقل الشخص الذي يلجأ للاقتراض لشراء بيت أو سيارة مثلا مجرد مغالطات تستوجب الوقوف عند بعضها:
1- القرض هو الحل:
لا يعبر القرض إلا عن حالة نفسية من التطلع لمستوى مادي أكبر مما عليه الشخص في الواقع، من منا لم يحلم يوما بشراء سيارة فخمة أو منزل واسع وجميل في وسط أحياء المدينة الراقية؟ من منا لم يحلم بالحصول على كل ما تشتهي نفسه؟ مع القروض صار ما تتمنى أن تحصل عليه بينك وبينه جرة قلم في إحدى الوكالات البنكية، إنه ذلك الحلم الطفولي في حب التملك الذي يغديه التطلع لمستوى الجيران أو الأصدقاء أو الزملاء في العمل، والذي _أي هذا الحلم_ قدمت هذه البنوك نفسها بأنها الوحيدة من تستطيع تحقيقه للشخص في أي وقت، ومع المغريات والتسهيلات سرعان ما يسقط هذا الشخص في فخ الاقتراض دون أن يكترث بما سيترتب على فعله هذا من عواقب.
2- أسعار فائدة البنوك ثابتة:
أسعار فائدة البنوك غير ثابتة كما يتصور أغلبية الناس بل تتعلق دائما بنسبة التضخم، عند سماعك بقرض ذو فائدة اجمالية تقدر ب 4 في المائة فاعلم بأنك ستؤديه للبنك ب 6 أو 7 في المائة على الأقل، هذا دون احتساب لأي مصاريف أولية كالتأمين ومصاريف الملف وغيرها، هاته الزيادة التي قد تصل في بعض الأحيان إلى الضعف ناتجة عن احتساب البنوك سعر الفائدة في التاريخ الذي ستكون قد أتممت فيه سداد آخر قسط من القرض، مما يجعلهم يحاسبونك بسعر العملة في المستقبل.
نحن كشعب نحتاج طبقة متوسطة واعية _وليس استهلاكية همها فقط تلبية رغباتها ونزواتها_ تدفع بنا إلى الأمام بوعيها لتشارك في مقاومة الظلم، وتسعى إلى التغيير في مجتمع لازال يعاني من التخلف |
ونحن نعلم بأن العملة تفقد قيمتها عام بعد عام بحكم التضخم. ومثل هذه المعطيات يحرصون كثيرا على عدم ذكرها لعملائهم ويتعمدون كتابة عقود القرض بلغة اقتصادية مبهمة وبخط شديد الصغر لكي توقِّع عليه دون أن تتمكن من قراءته جيدا، بل حتى لو قرأت العقد فأنت تحتاج لخبير اقتصادي يشرح لك ما جاء فيه؛ فمثلا لو قلت لك بأن نسبة التضخم هذا العام بلغت 3 في المائة فلن تستوعب المعلومة إلا إذا وضحت لك قولي بأن ما كنت تشتريه العام الماضي ب 100 درهم مثلا ستشتريه هذا العام ب 103 دراهم. وهكذا ان اقترضت 000 100 درهم على مدة عشر سنوات فسيعتبرون أنك اقترضت مبلغ 000 130 ثم يضيفون لك سعر الفائدة لتصل قيمة دينك إلى 000 150 درهم في بعض الأحيان.
لم تعد حاجاتنا بتلك الحميمية والخصوصية التي تجعلنا أكثر تحكم فيما نفكر في شراءه، ففي عصر الإشهار أصبحت تفرض علينا عادات استهلاكية جديدة لم تكن عند آباءنا، لنجد أنفسنا ننفق الكثير من المال وربما نقترض لأجل اقناء أشياء الكل يقول لك بأنها صارت ضرورية الآن في حين أن الجميع لا يعبرون إلا عن حاجات صنعها لهم الإعلام وصدّقوا بأنهم لن يستطيعوا العيش بدونها، فالحذر الحذر من مغبة السقوط في مجاراة الأقارب والأصدقاء في عاداتهم الاستهلاكية، فالتكلف يمزق الجيب ويمحق بركة المال، ولا تصدق من يقول لك بأن امتلاك السيارة والمنزل و … ضروري في زمننا، فترهن عمرك في سداد قرض قيمته اضعاف قيمة ما اشتريت.
نحن كشعب نحتاج طبقة متوسطة واعية _وليس استهلاكية همها فقط تلبية رغباتها ونزواتها_ تدفع بنا إلى الأمام بوعيها لتشارك في مقاومة الظلم، وتسعى إلى التغيير في مجتمع لازال يعاني من التخلف.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.