شعار قسم مدونات

قضية فلسطين وإشكالية التاريخ

blogs القضية الفلسطينية

تعتبر قضايا البحث التاريخي من التحديات المعقدة في العالم العربي، ليس فقط بسبب الحكم الاستبدادي المسلط على عملية البحث والكتابة خارج منظومة المعرفة التي تسمح بها الجهة المهيمنة على مقاليد السلطة، وإنما أيضا بسبب إشكالية المنهجيات المتبعة في البحث التاريخي في الجواب على سؤال لماذا حدث الحدث، وكيف يمكن فهمه؟ وليس الجواب على ماذا حدث وما هو التسلسل الزمني للقضية؟ لأن الجميع يتفق على حدوث الحدث، فلا أحد ينكر مثلاً نكبة عام 1948، انهيار الدولة العثمانية، الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر، الثورة البلشيفية، والجواب على سؤال لماذا أي تعليل وتفسير الأحداث وتغير منظومة العلاقات الاجتماعية؟ يقتضي السير على منهجية واضحة في البحث التاريخي لها أدواتها وخطواتها.

 

ولذلك ثمة منهجيات مختلفة في البحث التاريخي التعليلي للحدث، فالماركسية مثلا تنطلق من المادية التاريخية وتناقض الطبقات ووسائل الإنتاج في فهم حركة التاريخ، وثمة اتجاه أخر يرى ضرورة السير على المنهج العلمي الحديث للقدرة على فهم وتعليل القضية المبحوثة بموضوعية ونزاهة.

وتمثل قضية البحث في تاريخ فلسطين عقدة إضافية كونها تقع في مركز استقطاب بين عدة روايات تاريخية ومراكز قوى تنتج المعرفة وتلعب في الحقائق. وهنا بالتحديد تكمن حاجة وأهمية البحث التاريخي طبقا لمنهجية محددة. 

وبما أن الحقائق وتفسيرها، والأحداث التاريخية وتحليلها في السياق المعرفي التاريخي العربي، ومنه الفلسطيني، ضروري لفهم طبيعة وتكوين المجتمع وواقعه واستكشاف مستقبله، مع الأخذ بعين الاعتبار واقع السلطة المنتجة للمعرفة كتأطير للتاريخ من حيث الحقيقة والتزوير، لذلك تعتبر الحالة الفلسطينية نموذجا في ظل الهيمنة الصهيونية، والقوى الاستعمارية التي تدعمها في رواياتها التاريخية ومناهجها البحثية. فالقضية الفلسطينية من القضايا التي تحتاج إلى فهم ذي تأصيل وتفصيل في تحديد نقطة الانطلاق التاريخي لها، وما يتصل به من إشكاليات محددات الهوية ومميزاتها، وهوية القضية وشخصية أهلها، والإطار الناظم لها، علاوة على ذلك، تظهر إشكالية المنهجية كأحد التحديات الأخرى. 

لم يكن بلورة الهوية والشخصية الفلسطينية ممكنا إلا بعد فشل الامتدادين القومي والإسلامي في الدخول كطرف في جبهة الصراع، وفرض منطلقاتهما وهويتهما وتشكيل الهوية العربية أو الإسلامية
لم يكن بلورة الهوية والشخصية الفلسطينية ممكنا إلا بعد فشل الامتدادين القومي والإسلامي في الدخول كطرف في جبهة الصراع، وفرض منطلقاتهما وهويتهما وتشكيل الهوية العربية أو الإسلامية
 

إن تحديد نقطة البدء في البحث التاريخي للقضية الفلسطينية وتحديد تاريخ نشوئها يشكل محورا فاصلا في الموضوع. فهل تبحث بالاستناد على البعد الديني أم القومي أم الوطني؟ وهل يجب انطلاق البحث من مستوى عالمي أم إقليمي أم محلي؟ وأهمية اختيار المداخل والأبعاد بسبب إنتاج كل منهما لرؤية مختلفة للقضية، إضافة إلى الوصول إلى موقف مختلف في طريقة رسم وحل الصراع القائم، بينما يرى البعض وجود علاقات تكاملية بين تلك الأبعاد والاتجاهات الثلاثة، بحيث لا يتم إلغاء أو فصل أي بعد عن الأخر مع بروز أحد الأبعاد بشكل رئيسي.

ينطلق الاتجاه الوطني للقضية الفلسطينية بأن الهوية الفلسطينية بدأت بالظهور والتبلور منذ الغزو الصهيوني لفلسطين عام 1948 فبرزت مسألة النكبة واللجوء، الأمر الذي استوجب تشكيل وبلورة الهوية الفلسطينية للمحافظة على الأرض والدفاع عنها. وبالرغم من تقاسم اللغة والدين والعادات والتقاليد والأعراف مع الشعوب العربية، إلا أن تبلور الهوية وظهور الشخصية الفلسطينية لا يمكن تحديده إلا منذ ذلك التاريخ، خصوصا مع التداعيات الناشئة في صراع إثبات الوجود والتمسك بالهوية والحيلولة دون ذوبانها، ما يستوجب إبراز الهوية الوطنية كطرف في الصراع ومعطى مهم في إدارته.

 

ولم يكن بلورة الهوية والشخصية الفلسطينية ممكنا إلا بعد فشل الامتدادين القومي والإسلامي في الدخول كطرف في جبهة الصراع، وفرض منطلقاتهما وهويتهما وتشكيل الهوية العربية أو الإسلامية.. وأبعد من ذلك، يعتقد أن الانطلاق من البعد الإسلامي يضعف القضية عالميا في تحقيق مطالب الشعب الفلسطيني بوصفه النضالي والتحرري والإنساني.

 

ولذلك، كان النضال الشعبي الفلسطيني عاملا مهما في تشكيل الهوية وبلورتها، ضد الخصم الصهيوني الذي يحاول إحلال هويته وشرعيته على حساب شعب أخر من خلال التزوير التاريخي. ويستنتج أنصار الاتجاه الوطني بأن النكبة كانت منعطفا تاريخيا للقضية في العلاقة مع القوى الاستعمارية، لذلك فان تاريخ القضية الفلسطينية الحقيقي يبدأ منذ لحظة الاعتداء والغزو لا سيما عام 1948.

نجح المستعمر الذي يريد تفتيت البلاد الإسلامية في تقزيم القضية الفلسطينية لسلخها عن هويتها الإسلامية مرورا بتحويلها إلى قضية عربية - صهيوينة، ثم تقزيمها لقضية بين الفلسطينيين والدولة العبرية
نجح المستعمر الذي يريد تفتيت البلاد الإسلامية في تقزيم القضية الفلسطينية لسلخها عن هويتها الإسلامية مرورا بتحويلها إلى قضية عربية – صهيوينة، ثم تقزيمها لقضية بين الفلسطينيين والدولة العبرية
 

وفي المقابل، ينطلق الاتجاه الإسلامي بأن الهوية تتشكل بناء على الفكر وليس على اللغة وحدها ولا العادات والتقاليد المشتركة فقط، لأن الذي يحدد معالم وسمات الهوية هو الفكر السياسي الإسلامي. أما اختلاف اللغة والعادات والتقاليد فإنه لا يمنع من اتحاد وبلورة الهوية ومفرداتها في الفكر ومفاهيمه، فالأندونيسي له الحق بل عليه واجب الدفاع عن فلسطين باعتبارها أرضا إسلامية مباركة هويتها إسلامية منذ الفتح العمري حتى يومنا هذا، وأرضها خراجية لا يملك شخص أو جهة ملكيتها حتى لو خليفة المسلمين.

 

وما الصراع القائم مع الحركة الصهيونية إلا دائرة من الصراع مع الدول الاستعمارية التي تغذي هذا الكيان بأسباب البقاء والحياة تمويلاً وتسليحاً وتدريباً. فالصراع هنا ينبع من الصراع الحضاري بين الأمم وليس بين شعبين. إن الطرح الإسلامي يرى أن مستوى القضية الفلسطينية السياسي هو بين أمة إسلامية من جهة وبين المستعمر من جهة أخرى. ويستمر الاتجاه الإسلامي بطرحه حيث يشدد على أن مشكلة استعصاء قضية فلسطين عن الحل، مرده ضعف الأمة الإسلامية من جهة، ونجاحات المستعمر الذي يريد تفتيت البلاد الإسلامية في تقزيم القضية الفلسطينية لسلخها عن هويتها الإسلامية مرورا بتحويلها إلى قضية عربية – صهيوينة، ثم تقزيمها أي قضية بين الفلسطينيين والدولة العبرية، ثم قزمت ليصبح صعيد القضية السياسي منحصر بالسلطة الفلسطينية مع الحكومات الإسرائيلية اليمينة فقط، وكانت النتيجة أن تم إقصاء الهوية والبعد الإسلامي الذي يعتبر أساسا في تشكيل الهوية والتاريخ.

وفي ظل هذه التجاذبات والاستقطابات حول إشكالية البحث في التاريخ والهوية في القضية الفلسطينية حديثا وقديما، فإن معرفة القضايا التاريخية بالاستناد إلى الفكر الذي يحدد الهوية دون الانطلاق من الواقع بوصفه مصدرا للتفكير بل ضرورة أن يكون الواقع موضعا للتفكير، يمكن تجنب المغالطات التي تشوش الحقائق وتزور التاريخ دون فصل القضايا عن سياقها التاريخي ومنظومة العلاقات السائدة.