في خضم التغييرات العاصفة في السياسة الإقليمية للمملكة العربية السعودية مع صعود القيادة الجديدة فيها، برز في التناول الإعلامي موقف سعودي جديد، وهو الإعلان بشكل صريح وعلني لدعم قضية الأكراد، وهي من المواقف الجديدة على السياسة السعودية. وعلى الرغم من أن هذه المواقف جاءت عبر أشخاص أو وسائل إعلام مقرّبة من السلطات السعودية، من المؤكد أنها تعبر عن موقف رسمي.
بطبيعة الحال، احتفت وسائل الإعلام الكردية بهذا الدعم السياسي، الإقليمي "النادر" لقيام دولة كردية، ويمثّل هذا الموقف تحول تاريخي، وربما تفاجأ حتى الأكراد بهذا السخاء السياسي المفاجئ وغير المألوف عربيا. في بلد كالمملكة العربية السعودية، تتسم عملية صناعة القرار فيه بالتقليدية والفردية والمحافظة والتبعية، فإن مثل هذه التصريحات المتواترة حول هذا الموضوع تكتسب صدقيتها كتوجه رسمي، وإن كان غير معلن، خاصة عندما تأتى من الدوائر المحسوبة على السلطات الرسمية.
رغم التفاؤل النسبي بالتحولات التي جرى الحديث عنها في السياسة السعودية، خاصة بعد تولى الملك سلمان مقاليد الحكم في 23 يناير/ كانون الثاني 2015، وبدء عمليات تحالف "عاصفة الحزم" ضد المتمردين الحوثيين في اليمن (آذار/ مارس 2015)، لم تكن تلك التحولات تجسّد سياسة إقليمية متماسكة في مواجهة التحديات الناجمة عن الفراغ الإقليمي وتزايد النفوذ الإيراني، كما كان يأمل الكثيرون.
إن أطروحة كردستان الكبرى ستكون مدعاة لمواجهة مع أربع دول قومية تركيا وإيران والعراق وسوريا؛ اثنتان منها قوى إقليمية حقيقية (تركيا- إيران) |
ومع وجود تطلعات قوية ببروز قوة إقليمية عربية قوية لتوازِن القوى الأخرى (تركيا، إيران، "إسرائيل")، عُقدت آمال عريضة على دور قيادي للمملكة العربية السعودية، بعد تراجع القوى العربية التي ظلت تحتكر الأدوار والنفوذ والهيمنة بعد ثورات الربيع العربي، وخروج ليبيا ومصر وسوريا والعراق من المعادلة الإقليمية. ولذلك، ترجحت كفة الرياض التي توفرت لها فرصة تاريخية نادرة للقيادة، وتشكيل نظام إقليمي جديد يكون لها المكانة والدور القيادي الأهم فيه، فضلا عن إمكانية تعزيز قيادتها للعالم الإسلامي.
لكن، وبدلا من ذلك، بدا أن الرياض تتجه لتنخرط في سياسات قصيرة الأجل وخيارات خاسرة، كالرهان على سياسة "كردستان الكبرى"، وهي سياسات لا تعدو أن تكون مغامرات سياسية ستكون ارتداداتها على الرياض في المقام الأول، وعلى الوطن العربي بشكل عام مستقبلا. كذلك، كان لافتا ليس الحديث عن مسألة الأكراد في بلد واحد، كما كان في الماضي، بل الحديث الآن عن "كردستان الكبرى"!.
ومصداقًا لهذه التوجهات السعودية الإقليمية الجديدة، الحديث التى أدلى بها اللواء أنور ماجد عشقى-وهو المقرّب من الدوائر السعودية وعرّاب التطبيع مع الكيان الصهيوني- تحدث في كلمة له أمام "مجلس العلاقات الخارجية" بواشنطن -غير مبين تاريخ عقد الندوة- وبعد أن تحدث عن سلسلة من التصورات، ربما عن سياسة بلاده الإقليمية- قال حرفيا الآتي": "العمل على إيجاد كردستان الكبرى بالطرق السلمية لأن ذلك من شأنه أن يخفّف من المطامع الإيرانية والتركية والعراقية التي ستقتطع الثلث من هذه الدول لصالح كردستان.. وأرجو التوفيق والسلام في الشرق الأوسط".
إن مثل هذا الطرح السعودي الجديد يعنى إعادة النظر في مجمل السياسات الاستعمارية والسياسات القُطرية والإقليمية ذات الصلة بالمسألة الكردية، وبالتالي يتوقع أن تكون لهذا الطرح تداعيات وردود أفعال قوية، ليس وسط الأكراد داخل بلدانهم الحالية فحسب، وإنما من دول الإقليم الأخرى بدرجات متفاوتة، وكذلك من الدول الكبرى.
كما أن صدور هذه التصريحات من لدن أحد أبرز المقربين من دوائر صناعة القرار في الرياض حول "كردستان الكبرى"، لا يمكن فهمه أو تبريره في سياق سياسات إقليمية متماسكة للمملكة يمكنها الدفاع عنها وتحقيقها وحشد الدعم السياسي والديبلوماسي لها، بقدر ما هي مجرد انعكاس للسياسات الانفعالية التي غدت تسِم سلوك القيادة السعودية مؤخرا، ولعل آخرها وأخطرها افتعال مواجهة إعلامية وديبلوماسية مع قطر ما تزال قائمة حتى اليوم.
علاوة على ذلك، فإن أطروحة كردستان الكبرى ستكون مدعاة لمواجهة مع أربع دول قومية تركيا وإيران والعراق وسوريا؛ اثنتان منها قوى إقليمية حقيقية (تركيا- إيران)، فضلًا عن أنها ستثير مشكلات تتعلق بنسف أسس التعايش مع وجود ظلال النزاع المسلح، خاصة ظهور الأكراد كحفاء للغرب في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وتورط قوى كردية في سياسة التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي، وهو ما سيخلق وضعا أشبه بالقنبلة الموقوتة مع إمكانية نشوب نزاعات حول الأرض والحدود. إلخ.
بالعودة للتصريحات السعودية عن "كردستان"، يمكن القول أنهاّ تأتى في إطار سياسة "رغبوية" للرياض دوافعها:
أولا: محاولة اهتبال فرص وجود ترمب على سدة الحكم في البيت الأبيض وسياسته المعلنة في مواجهة إيران.
ثانيا: سيطرة افتراض ضحل لدى بعض الدوائر السعودية بأن أي تحرك مضاد لإيران وتركيا ستعطيهم واشنطن ضوء أخضر للقيام به!!، بما في ذلك اللعب بورقة الأكراد، وأن هذه السياسة-ضد إيران مثلا- يمكن أن تتم عبر التحالف مع "إسرائيل".
بخلاف السعودية، تتوفر لدى كل من إيران وتركيا- وهما دولتان قوميتان لهما تقاليد سياسية راسخة في مجالات صناعة القرار فيما يخص أمنهما القومي- الاستراتيجية والخبرات الديبلوماسية والعسكرية لاحتواء ملف الأكراد في داخلهما |
ربما يظن السعوديون أن تبنى كردستان الكبرى يمكنهم من اصطياد عصفورين بحجر واحد: ضرب نظامي الحكم في إيران وتركيا؛ ولكن ما فات عليهم – وعلى المحور الإقليمي الذى يقودونه- أنهم لدى الدول الكبرى يعتبرون أقل أهمية مقارنة بالأكراد، فالأكراد ورقة عسكرية مع عجز الدول الغربية تجنب التورط في التدخلات البرية، وعدم ثقتهم في جهوزية الجيوش العربية لمواجهة تنظيم الدولة عندما كانت الدول الغربية تتحدث أثناء التحضير لتكوين التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، وخيارات التدخل البرى.
إن تبنى سياسة كردستان الكبرى تثير نزعات انفصالية قد تقود إلى اضطراب إقليمي؛ فالأكراد الأتراك (حزب العمال الكردستاني(PKK) في صراع مسلح مع الدولة منذ عقود. بينما الأكراد العراقيون حققوا قدرا من الاستقلال عن الحكومة المركزية في بغداد. وأما الأكراد الإيرانيين فهم يعانون من القمع القومي الفارسي والتمييز، ولا تزال تراودهم "نوستجاليا"" الدولة الكردية التي وئدت سريعا (جمهورية مهاباد)، التي أسسها الأكراد 1946 بدعم من الاتحاد السوفييتي).
أما الأكراد السوريين فهم منخرطون في حرب بالوكالة في سبيل تحقيق طموحاتهم القومية في سوريا.. فمنذ العام 2005 برزت "وحدات حماية الشعب الكردي" (مليشيات الاتحاد الديموقراطي الكردستاني)، ولاحقًا وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية تشكّلت كذلك ما عُرفت "قوات سوريا الديموقراطية" التي يشكِّل الأكراد غالبية قادتها مع مشاركة لعناصر من العشائر العربية. حاليًا، تروج قوى كردية، وبدعم من القوى الغربية، لنموذج الحكم الذاتي في منطقة (روج آفا) ضمن خيارات حل المسألة الكردية في سوريا مستقبلا، وهى توجهات اُحادية بعيدا عن القوى الوطنية والشركاء الآخرين في البلاد.
بخلاف السعودية، تتوفر لدى كل من إيران وتركيا- وهما دولتان قوميتان لهما تقاليد سياسية راسخة في مجالات صناعة القرار فيما يخص أمنهما القومي- الاستراتيجية والخبرات الديبلوماسية والعسكرية لاحتواء ملف الأكراد في داخلهما، أو في جوارهما، بينما لا يُعرف بالضبط -على الأقل قبل ظهور مثل هذا الطرح- ما هي السياسة أو الخيارات السعودية في هذا الصدد؟
من المؤكد معارضة تركيا وإيران قيام كردستان العراق، كما أنهما لن تفقا مكتوفتي الأيدي أمام دعوات "كردستان الكبرى" التي تروح لها دوائر سعودية؟ وفى المقابل، ماذا لو اتجهت تركيا وإيران لدعم مطالب "تقسيمية" لمجموعات داخل السعودية من منطلق "أقلوى"؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.