يصير الناس مع مرّ الأيام إلى أحوال لم تزر يوما خيال أسلافهم، يكونون في الدرك الأسفل من الحضارة ثم يرتقون حتّى يصبح ماضيهم الأسود مجرّد كابوس بعيد يذكرونه لماما ويعبرون عليه عبور المسافر على محطات القطارات لا يكاد يلقي لوجوه المحيطين به بالا.
يحدث ذلك للأمم العريقة في غضون قرون لأنّ أعمار الدول والشعوب تقاس بمئات السنوات؛ تستغرق أزمنة مديدة كي تتحول من حال إلى أحسن منه، لكن أن يحدث التحوّل في دولة كانت قبلة للأحرار ثمّ غدت مرتعا للمنهزمين وحمَلة جينات العبودية في بضع عقود فتلك ردّة تاريخية وانتكاسة شعبية تستدعي التفسير العميق والوقوف الطويل.
تذكّرت مفهوم الردّة في معنييها الفقهي والتاريخي وأنا أشاهد تصريحا لسفير (ولا تثريب على من قلب الراء هاء) المملكة السعودية في الجزائر يصف فيه حركة المقاومة الإسلامية حماس بالإرهاب في تصريح لقناة تلفزة يراها عامّة الشعب نافذة تطلّ منها رؤوس شياطين السياسة، وإن كان من غير المستغرب أن تبثّ تلك القناة كلاما مسيئا للأخلاق إلّا أن أشدّ المتشائمين لم يكن يتوقّع أن يجاهر دبلوماسي عربي بالعداء للمقاومة الشريفة في بلد عرفه العالم أوّل ما عرفه بأنّه قبلة للثوّار من كلّ أصقاع العالم، ليس ذا فحسب بل أنّ تصريح السفير أمّنت عليه الحكومة بصمتها وكأنّه قد قال ما كان يودّ المسؤولون الجزائريون قوله ولم يجرؤوا على حدّ تعبير أحد المدوّنين.
إنّ ما يغيض الجزائري بعد تصريح السفير السعودي هو أن يقترن ذكر بلاده بعار الصمت على هرطقات دبلوماسي وجد في صمت نظام الانتداب المهيمن على الجزائر فرصة للتهجّم على المقاومة الفلسطينية |
من كان يتصوّر أنّ البلد الذي ارتفعت فيه أصوات المجاهدين تستذكر أوائل الفاتحين (كلمة السر التي تداولها المجاهدون في ليلة المولد النبوي في الفاتح من نوفمبر عام 1954 كانت خالد وعقبة) عند اندلاع الثورة سيصبح بعد 55 سنة منصة لدعاة الانبطاح وصنّاع الخذلان العربي ومنطلقا للدعاية المغرضة ضدّ آخر المدافعين عن الشرف العربي المنتهك الذائدين عن حياض الأمة المهتوك عرضها في موصل العراق وكابول أفغانستان وقدس فلسطين.
إنّ المرء ليقف أبله من حبارى -كما تقول العرب- من هول ما يرى ويسمع، أرض سقيت بدم الشهداء تدنّس، كعبة للثوار يلطّخ ثوبها الناصع مغامر من أرض كعبة الإسلام، غير أنّ من يدرس التاريخ جيّدا سيدرك أنّ ما قاله السفير السعودي ينسجم تاريخيا مع مواقف الأسرة الحاكمة في بلده، فآل سعود تخلّفوا وما كان لهم عذر عن دعم جهاد الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي وقبل ذلك حاربوا مع الإنجليز ضدّ العثمانيين، كما حاربوا مع الأمريكيين ضدّ العراق، وأعادوا الكرّة ضدّ الجزائريين مطلع التسعينات، ولازال الناس إلى يومنا يذكرون قول الملك فهد للجنرال خالد نزّار: "العصا العصا للإسلاميين" حين كان نزّار في رحلة البحث عمّن يؤيّد انقلابه على خيار الشّعب فوجد في آل سعود أشطر مؤيّد وأحقد عدوّ لحرية الشعوب.
وحين احتاج السيسي مموّلا لحربه على المصريين أخبروه أنّ في الرياض ملك لا يظلم عنده انقلابي ولا يردّ طاغية إلّا بعد أن يقضي حاجته ويُقرّ عينه بالتأييد السياسي والفتاوى المبيحة لسفك دماء الناس، فالانقلابيون ولّاة أمور طاعتهم واجبة لأنّهم حكّام متغلّبون استتبّت لهم الأمور حسب فقه شيوخ البلاط الملكي، وليست صدفة أن تكون الرّياض وجهة الرئيس التونسي بن علي الذي قال عنه وزير الخارجية السعودي حينذاك أنّه "استجار بنا فأجرناه" ونحن نعلم أنّ الإجارة تكون لكافر يستجير بمسلم وبن علي بهذا القياس السعودي كافر لكنّه بنفس القياس وليّ أمر يحرم الخروج عليه، ولكم في فقه آل السعود عبرة يا أولي الألباب! وإنّي أخال صوت التاريخ يردّد: "اذهبوا إلى الرياض فإن فيها ملك لا يردّ انقلابيا ولا مستبدّا".
تظل أرض الثورة أكبر من السفير ومن الذين سمحوا له بالاعتداء على المقاومة، ومن كلّ منبطح ومتآمر |
إنّ ما يغيض الجزائري بعد تصريح السفير السعودي هو أن يقترن ذكر بلاده بعار الصمت على هرطقات دبلوماسي وجد في صمت نظام الانتداب المهيمن على الجزائر فرصة للتهجّم على المقاومة الفلسطينية، فالجزائر التي حارب أبناؤها الصهاينة في 67 و73 وتدرّب فيها مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية ودخل بفضلها ياسر عرفات مقر الأمم المتحدة لأول مرة وأعلن من عاصمتها قيام دولة فلسطين صارت اليوم في قبضة نظام يحارب ثوابت شعبها المسلم وقيم الحرية ونصرة الحق التي تربّى عليها ويتحالف مع أعداء الأمة ويمنحهم منابر للسخرية والحط من قيمة المقاومين، ولله درّ الشاعر إذ قال:
فليت فلسطين تقفو خطانا
وتطوي كما قد طوينا السنينا
وبالقدس تهتم لا بالكراسي
تميل بها يسرة ويمينا
فهل درى مفدي زكريا أنّ حكامنا هم من اقتفوا خطى العملاء والخونة ولم يحدث ما تمنّاه قبل أزيد من 40 سنة، وإنّ نفس الحر لتستحي من ذاكرة أبو عمّار الذي كان يجول شارعي الشهيدين زيغود يوسف وديدوش مراد فيقول: إنّي حين أرى هذه البنايات التي تركها الفرنسيون مجبرين أتيقّن من النصر، فالصهاينة سيتركون قراهم التي بنوها في فلسطين كما ترك الفرنسيون خلفهم هذه البنايات.
وإنّي أخاله سيصعق إن رأى ما آل إليه حال كعبة الثوار التي كان يحجّ إليها بعد أن استنسر البغاث ومدّ أجنحته فوق رؤوس الصقور. ورغم ذلك تظل أرض الثورة أكبر من السفير ومن الذين سمحوا له بالاعتداء على المقاومة، ومن كلّ منبطح ومتآمر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.