شعار قسم مدونات

طواغيت صغيرة.. لماذا يتجبََر المقهورون؟

blogs شطرنج

يتلقى المدير اتصالا طارئا يتغير به لون وجهه ويمتعض، لقد كان ذلك الوزير على الجهة الأخرى، يوبخه على التأخر بإنجاز المشروع، ويبلغه قراره بإعفائه من المهمة.

 

يغلق المدير السماعة وينادي من فوره موظف القسم، يصرخ في وجهه، يصب عليه غضبه ثم يخبره بقرار فصله من العمل.

 

يرجع الموظف إلى بيته حانقا تتراقص الشياطين أمامه، يدخل بيته ويفتعل شجارا مع زوجته ويشتمها موجها لها شتى التهم، ثم يعلمها بقرار حبسها داخل البيت ومنعها من أشكال الحياة.

 

تدخل الأم غرفة ابنيها فيشتعل صراخها ويطّرد توبيخها، وتضربهما بما تقع عليه يدها.

 

يخرج الابن المراهق إلى الشارع، يجلس على حافة الطريق يدخن السجائر ويراقب الغادي والرائح، تمر من أمامه فتاة شابة، يقفز فورا من مكانه ويلاحقها، ملقيا على سمعها شتى عبارات التحرش والكلام القبيح.

 

أما الطفل الأصغر، فيخرج إلى الشارع ويرى أمامه قطة صغيرة. يلحقها ثم يمسكها من ذيلها ويلوح بها كما يلوح راعي البقر بالحبل، ثم يرميها بعنف في حاوية القمامة.

 

تلك مشاهد يومية من حياتنا لا نفتأ نشاهدها. وإن أردنا توصيفها وتصنيفها، فسيكون من الخطأ وضعها تحت خانة التصرفات الفردية وردود الأفعال السطحية، بل يقبع خلفها علم كامل في علوم الاجتماع يعنى بسيكولوجية الإنسان المظلوم، الإنسان الذي صار مادةً لسلطة الآخرين وتسلطهم.

 

هي إذن منظومة كاملة من ردود الأفعال النفسية التي يتعرض لها أفراد المجتمع نتيجة خضوعهم لسلطة تتحكم في رغباتهم وحاجاتهم وتفرض عليهم نفوذها وسيطرتها. فتتغير وفقها نظرتهم إلى أنفسهم ومن حولهم والمحيط الذي يعيشون فيه.

 

إن استخدام الإنسان المظلوم للعنف في حق غيره، هو طريقة يسلكها دون وعي لإثبات ذاته، وسعيٌ لا شعوري نحو إيجاد معنى له بعد أن سُلب منه.

تتجلى تلك الممارسات كردود أفعال لما يسمى عقدة النقص، فالإنسان الذي يخضع للأقوى، يشعر بأنه في ضعف دائم، وأنه مهدد الكرامة، عديم المعنى وفاشل حتى في الحصول على أبسط حقوقه والتعبير عن ذاته، فيتولد في داخله ضغط نفسي عظيم، يُصرف في إحدى حالين: إما انكفاء وتقوقعا على الذات، أو انفجارا على شكل عنف يُصدّره إلى الخارج، ويترجَم إلى ممارسات عدة، كممارسة السلطة على الأضعف، واستخدام العنف، والاستعداد الدائم للمناوشات، والخطاب اللفظي الحاد والدائم التوتر، والأمثلة على ذلك وافرة، فقد يكون خلاف بسيط على إشارة مرور سببا في جريمة قتل. أما إذا لم يجد ذلك المستضعف من هو أضعف منه، فيبدأ بممارسة طغيانه على الحيوانات والممتلكات وكل ما لا يقاوم تسلطه.

إن استخدام الإنسان المظلوم للعنف في حق غيره، هو طريقة يسلكها دون وعي لإثبات ذاته، وسعيٌ لا شعوري نحو إيجاد معنى له بعد أن سُلب منه. فتدفعه رغبته بالشعور بالقوة والاحتياج لكيان مرئي إلى ممارسة الطغيان على من هو أضعف منه. وذلك هو جواب السؤال القائم أبدا، كيف يمكن لمن تعرض للظلم بأن يظلم؟

لا بد لنا أن ندرك ذلك التفاعل النفسي فينا حتى نصبح مجتمعات أرحم وأقوم. وألا نسمح للطغيان الواقع علينا بأن يحولنا إلى طواغيت صغيرة تمارس سلطتها على الأضعف، فنُجرّ إلى دوائر من العنف لا تبقي ولا تذر. من البديهي أن يكون زوال هذه الظواهر بزوال الظلم نفسه، لكن الوعي هو السد الذي سيمنعنا من الانفجار والانحدار حتى ذلك الحين. فلن يزيدنا الانجرار سوى فتكا في إنسانيتنا ونخرا في تعاضد مجتمعاتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.