حكايات من عربة السيدات

blogs عربة المترو

في ذلك الصندوق المعدني المتحرك على قضبانه والذي يطوي المسافات تحت الأرض متحاشيا زحام الطرق ومعلنا انتصاره على الزحام المروري الخانق في شوارع القاهرة في الوقت الذي يحمل بداخله زحام أنكى من زحام الطرقات ألا وهو زحام الأجساد المتكدسة المحشورة داخله، بداخل عربة السيدات في قطار الأنفاق المسمى بالمترو أقف بلا حراك لا رغبة مني بالسكون ولكن لانعدام الحيز الذي يمكنني من الحركة. تبوء محاولاتي للقراءة بالفشل مرة بعد الأخرى أعلن استسلامي وأغلق كتابي؛ ولأن هذا القبو لا يسمح بشيء سوى التحديق بالركاب أفعل ذلك قسرا.

و بما إني من هواة الأفلام القصيرة ويسيطر علي هوسها يبدأ عقلي بشكل تلقائي في اختيار الكادرات والموسيقى المصاحبة لفيلمي القصير ذاك، لا يحتاج الأمر لمخرج حاذق ليظهر هذا الكم من الأسى المخيم على وجوه الجالسات واللاتي يمكننا تقسيمهن بحسب أعمارهن إلى طالبات وأمهات حديثات العهد بالأمومة وأمهات طعنهن السن وهموم الحياة.

أما الطالبات فضحكهن حلو الرنات ونكاتهن طريفة وشغبهن ذو ضجة صغيرة محتملة يحاولن التغلب على الحر وضيق الأمكنة والوجوه الضجرة المحيطة بهن. ويلمح تحت كل تلك البشاشة التي تعلوهن أشباح خوف دفين، أنظر إليهن وإلى الأكبر سنا منهن هل تذكرهن الفتيات الصغيرات أولئك بأيام صباهن؟ هل يدور الزمن على الصغيرات البشوشات ليقعدن على مقاعد كبيرات السن مطعونات بذات السلاح الذي قتل فيهن المرح يوم كن مرحات؟

الموجع أن تنزل النساء ساحات العمل لا رغبة في العمل أو تحقيقا للذات أو لأي سبب فلسفي يخصها. أن يدخل العوز إلى عقر دارها ليجرجرها إلى ساحة العمل جبرا

والأمهات حديثات العهد بالأمومة يلمح على وجوهن على الفور أثار ليالي قضينها ساهرات في رعاية لأطفالهن، تجر الأم الصغيرة صغيرها أو تحمله تحذره كثيرا وتشدد عليه التحذير إن كان سائرا بجوارها، تحذيرات تخص ركوب القطار وتحذيرات تخص الاتزان بداخله وتحذيرات تخص أن لا يغيبوا عن أعينهن ولا يفلتن أيديهم من أيديهن. يعلوا القلق وجوهن بلا هوادة يراقبن جميع من حولهن خشية على أبنائهن وأشفق عليهن من هذا القلق الذي يأكل قلوبهن والذي تغذيه أخبار اختطاف الأطفال وتجارة الأعضاء وغيرها من الأخبار المرعبة. يحتملن إلحاح الأطفال ومناقرتهم لهن ويظهر بشدة من مراقبتهن الوقت أنهن يتمنين العودة إلى بيوتهن سالمات بصغارهن وأن يجدن في الوقت سعة لمشاغلهن التي تستنزفهن ولا تنفذ.

تهدهد أخيرات صغارهن اللائي ارتعبوا من كل تلك الوجوه التي لا يعرفونها وتلك العربة التي حشرن بداخلها ليختبروا حر الصيف بأنفسهن، يطمئن أولادهن أنهن بتن على وشك الوصول ويجادلن العجائز أن أبنائهن يبكين الحر لا الحاجة إلى الرضاعة. ستعلن انفراجه أساريرهن أنهن وصلن محطتهن المنشودة وانتهت رحلة المترو البائسة تلك.

في الوقت الذي تقف فيه وجها لوجه مع نسوة يحملن بيوتهن على أكتفاهن لو رسمت لهن صورا فلأن ارسمهن من غير منازل تفانين من أجلها حتى باتوا قطعا من منازلهم أو باتت المنازل قطعا منهن يحملنها معهم حيثما ذهبوا، يقف كل كلام مناضلات النسوية الفارغ المتماهي المتعالي عليهن حذاء أحذيتهن أو تحتها. أولئك المعيلات ينسفن كل كلام أمام ضعفهن الظاهر في رعشة أيديهن وهي تحمل أكياسا لشئون البيت وأمام الخشونة وآلالام الظهر والعظام الذي تستطيع أنت وصفه من مجرد رؤيتك لهن. أولئك الجميلات اللاتي يتحدثن عن غلاء الأسعار الذي يثقل ظهورهن.

undefined

أفكر كثيرا في الحيز الذي تشغله النساء في نسيج المجتمع، في الواقع أنا أرى أن عمل المرأة أمر شديد الخصوصية يحكم في كل حالة بما يرضي صاحبتها وحدها. لا أزدري العاملات ولا أرى غير العاملات كسولات أو بلا قيمة أحترم اختيار كل فريق تمام الاحترام ولكن الموجع أن تنزل النساء ساحات العمل لا رغبة في العمل أو تحقيقا للذات أو لأي سبب فلسفي يخصها. أن يدخل العوز إلى عقر دارها ليجرجرها إلى ساحة العمل جبرا. نزلن إلى العمل لتظل بيوتهن مفتوحة لا أكثر نزلن نزول السخرة ولولا الحاجة ما نزل معظمهن.

أذكر البائعة التي أراها دوما تحمل صغيرها في حمالة أطفال تجعله معلقا أمامها كما لو كانت تحتضنه وهي تحاول البيع وتفاوض الزبائن، الشبه بينها وبين طفلها لا يدع مجالا لشك أنه وليدها وأنها أمه، حتى التواصل الرقيق الدائم بينهما يخبر بذلك، لا أستطيع نسيان حرقتها وهي تحكي لزميلة من زميلاتها أن إحداهن أرادت أن تأخذ منها ابنها لأنها ظنت أنه ميت وحين برهنت لها أنه نائم لا أكثر ادعت السيدة أنها ليست أمه وأنها بالتأكيد قد اختطفته من إحداهن. تفهمت ضيق البائعة وحرقتها وفهمت قلق السيدة وإن كان في غير محله.

النساء في وطني بطلات حقيقيات، كل منهن بطلة لقصة فلولاهن ما قصت قصص ولولا كفاحهن المرئي غير المحكي لما كان هناك كفاح

كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة وعربات السيدات تصبح عربات مختلطة بعد التاسعة بحكم القانون إلا عربة واحدة تلك التي استقللتها فوجدت بها عددا غير هين من الرجال لم أنطق ببنت شفة رغم علمي أن من حقي أن أتكلم وحينها رأيتها تلك الطفلة بالغة الجمال التي تبلغ من العمر عشر سنين على الأكثر لا يبدو على هيئتها أنها من البائعات داخل العربة بأية حال، يبدو من هندامها وهدوء ملامحها أن أحدهم اصطحبها معه لأنها ابنته.

تبدأ الفتاة في المناداة على بضائعها يشاكسها شاب جالس على مقعد فتشاكسه وترد له الصاع صاعين وتخبره بحزم شديد أن تلك عربة السيدات الوحيدة بما أن الساعة قد تجاوزت التاسعة وأن القانون الذي يبيح له ركوب عربة السيدات يحرمه من ركوب هذه العربة بالتحديد.

أواه يا صغيرتي وتعرفين القانون أيضا وما يبيحه وما يمنعه تبسمت بشدة من منطقها ووعيها وجرأتها وانعدام خوفها ورأيت في جميع العيون إعجابا دفينا بالصغيرة التي لم تسمح لأحد أن ينحاز إليها في مناقرتها لأنها وبحق تمتلك بدل اللسان عشرا. وحين تحامل عليها أحدهم أخبرتها أنها هنا لتبيع وأنه يعرقل عملها وأن لا وقت لها للجدل. كانت الصغيرة أجمل ما رأيت في رحلات المترو بلا منازع.

النساء في وطني بطلات حقيقيات، كل منهن بطلة لقصة فلولاهن ما قصت قصص ولولا كفاحهن المرئي غير المحكي لما كان هناك كفاح. كل منهن في معركة صغيرة كل يوم عمل وانتهائه بسلام هو نصر صغير لهن. السلام والأمان وقوت اليوم هم غاية المطلب لهن. 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان