"أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ"، قال النووي رحمه الله "أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمراء في غير معصية". شرح مسلم-12/222.
مند تأسيس النظم السياسية مع الدولة الأموية بدأت براثن السياسة تنخر جوف الدين، حيث أصبح الدين يخدم السياسة، فكل بناء سياسي لا يستقر له مقام إلا بمباركة رجل الدين أو فقيه يفتيه في مشروعيته، وهكذا أصبح الدين والسياسة ثنائية ضدية متلازمة تركن ببعضها البعض، فأصبح الفقيه ذلك العالم حسب تصور المجتمع بكل تلاوينه هو المشكاة التي تفتح أعينه على الحاكم الفعلي بكل بلدان العالم العربي، حيث يؤسس لنظام ويسقط آخر، بناء على فتوى قد تكون صائبة أو خاطئة قياسا على أدلة دينية لا يستقيم لها مقام.
هذا النموذج هو قديم ومتجدر في الدولة العربية، لكن في عصرنا الحالي برز بشكل جلي وواضح مع الأدوار التي قامت بها الحركة الوهابية في المملكة العربية السعودية ومكانة جامع الأزهر في تثبيت نظام الحكم العسكري في مصر، وطريقة أدلجة المجتمع المغربي وفق تصور المالكي والعقيدة الأشعرية، هذه التصورات الدينية كلها تؤسس لمشروعية نظام سياسي معين وتحارب إلى جانب هذه الأنظمة كل مروق أو خروج عن خطها النسقي الذي رسمته، حيث اتخذت وسيلتها بناء على منحيين مختلفين: إما أن تكفر أي فهم للدين والسياسة بشكل معاصر ومنفتح على الغرب أو إن تنسب الرهبنة والإرهاب والتطرف الذي يشرب من نفس المعين الذي تشرب منه.
فقهاء يعيشون حياة البرزخ الدنيوي وينادون بالتقشف، ويحيون الرفاهية ويمجدون الفقر، وهذا ما جعلهم يعيشون حياة استثنائية بعيدة عن صخب ومشاكل الحياة لدى العامة. |
لكن السؤال المطروح: ما الفائدة من الوقوف إلى جانب أنظمة سياسية لا تحتملها مجتمعاتها؟ هذا يطرح بفعل أكثر من علامة استفهام، لكن إذا أمعن النظر في المكانة التي يحتلها علماء الدين في عين المجتمع، فهذا يعكس دور الدولة في فرض تصور ديني من خلال الفقيه الذي باركها كينونتها.
ماذا قدمت الدولة للفقيه أو الشيخ الذي ارتكمت له في تصوراته الدينية، وقد استفادت منه كثيرا في إرساء آليات تحكمها المرتبطة بالثقافة والفكر الديني الذي غيب وعي المجتمع وأتاح لهذه الأنظمة السياسية إمكانية التحكم في أي تغيير ممكن، بل ساهم في تنميط المجتمع وفق بنيتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وهو ما جعلها تقتسم معه كعكعة النعيم الدنيوية المتعلقة بالمال والمناصب؟
لكن هذا ليس بيت القصيد، بل الدولة أو الكيان السياسي وفر عنها متاعب الدخول في صراع مع التصورات والاتجاهات الدينية المختلفة عنها، فمكنها من السيطرة على الحقل الديني. وهذا ما فرض علينا طرح التساؤل التالي: ما علاقة رجال الدين أو الفقهاء بالمجتمع؟
إذا أمعن النظر في المكانة الاجتماعية والاقتصادية سنجد أن هذه الفئة تعيش حياة مختلفة عن حياة عامة المجتمع، فهناك تباين واسع وكبير بين تصوراتها وأفكارها والحياة الدينية للمجتمع: فقهاء يعيشون حياة البرزخ الدنيوي وينادون بالتقشف، ويحيون الرفاهية ويمجدون الفقر، وهذا ما جعلهم يعيشون حياة استثنائية بعيدة عن صخب ومشاكل الحياة لدى العامة، فأصبحوا في جزيرة الغنى والبذخ بدعم من الأنظمة السياسية التي تحميهم وتجعلهم على رؤوس الخلائق، وهذا ما جعلهم يتحكمون في النسق العام لحياة فئة الرعاع الذي يتغدى من فتاويهم دون أن يشاركهم رغد الحياة. إنها فعلا "جزيرة الفقهاء".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.