شعار قسم مدونات

فنزويلا.. حلم اليسار المفقود

أخبرتني أمي عبر الهاتف أن أبناء بلدتي متحمسون جداً للاستفتاء الذي جرى في فنزويلا منذ بضعة أيام، وأنهم أقاموا خيمة للتصويت في مدخل القرية، فيما بدأ البعض بتحريض من أقاربه في ذلك المهجر البعيد، يحاول "خرق اللوائح" أو تأكيد التصويت للرئيس الحالي، اليساري المزعوم، نيكولا مادورو. وإلى أن سمعت ذلك بـ "عظمة أذني"، كنت أعتقد إن اغرب ما يحدث في هذا العالم، هو ما تنقله لي وسائل التواصل الاجتماعي. أما أن تخوض بلدتي الصغيرة انتخابات فنزويلية، فمرحلة متقدمة من الهذيان الذي لم أتوقعه بتاتاً. قلت لأمي إن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحاً لأن انتخابات المغتربين تجري عادة في السفارات حيث توضع صناديق الاقتراع تحت حراسة مشددة، ويمنح الناخبون لوائح موحدة، وهكذا. أكدت أمي أنها مقتنعة بكلامي، لكن عملياً هناك خيمة وناس وحماسة انتخابية. قالت إن ثمة فريق شديد التأييد للرئيس الحالي مادورو، ويريده أن يفوز بالاستفتاء ضد "هؤلاء المؤيدين لأميركا".

 

لبرهة، شعرت أني عدت بالزمن الى أفلام الأبيض والأسود أو الى الحرب الباردة وكتب طفولتي التي تحثني على "صهر الفولاذ". ثم سرعان ما تعاطفت مع أشخاص لديهم أفضل النوايا، واسوء الوسائل لتحقيقها.

 

هكذا تراهم يدعمون يساراً ما، يجهلون ماهية سياساته على ارض الواقع لكنه يحاكي فيهم احلاماً عن عدالة اجتماعية موعودة، وحقوق مستعادة لطبقات كادحة.

 

أذكر أني بعد إحدى الزيارات الى فنزويلا، حيث يقيم أخوالي منذ منتصف خمسينات القرن الماضي، وقد بنوا بيوتاً واعمالاً وأنشأوا عائلات مترامية، جاء من يزورنا للتهنئة بالسلامة والاطمئنان على الأقارب هناك. فأكثر من نصف أهالي بلدتي مهاجرون إلى تلك البلاد البعيدة ويكاد لا يخلو بيت من "تيو" أو "تيا" (خال أو خالة) فيما كان سابقاً مهجراً نفطياً غنياً. علماً أن افواج الهجرة الاولى اقتصرت على اعداد قليلة جداً، لحقتها مطلع التسعينات ومنتصفها افواج كبيرة اختلفت بأنماط أعمالها، ومصادر كسبها، فنشأت هوة تلو الأخرى بين بيئة المهاجرين أنفسهم.

 

ثمة من من يعلي الشعارات الرنانة على دوائه وخبزه اليومي، وذلك يصبح بالطبع أسهل عندما لا يكون هو المتضرر الاول. فماذا يخسر رجل متحمس في بلدة لبنانية صغيرة إن أعلن دعمه لزعيم يقع على المقلب الآخر من الكرة الارضية كمادورو مثلاً؟

المهم، أن الزائرين يومها راحوا يمتدحون سياسات هوغو شافيز، وقد كان رئيساً آنذاك وكيف انه يأخذ من الاغنياء ليعطي الفقراء، ويناهض العولمة واسرائيل، ويدعم فلسطين، ولذلك فإن العالم كله يتكالب عليه، ويتأمر ضده. وراح الزائرون على اختلافهم، يخبروننا نحن، القادمين لتونا من فنزويلا كيف هي الحياة هناك من دون أن يكونوا داسوا ارضها يوماً. سألت أحدهم وهو الاكثر ادعاء بالاطلاع والمعرفة، إن كان يعرف مثلاً إن النفط الفنزويلي يرسل مجاناً إلى كوبا ويحرم من خيراته أهل البلد، وإذا كان يرى في ذلك توزيعاً عادلاً للثروة أو إن الكهرباء بدأت تقنن، وأن ثمة شبهات فساد تحوم حول أبناء الرفيق المناضل شافيز وتهريب أرصدتهم الى أميركا. الاستدارة بالإجابة تأتي دائماً من فلسطين. فذلك كله تفصيل عابر أمام مواقف العز والكرامة التي يتخذها الرفاق الفنزويليون بتأييد قضيتنا وكان فيديل كاسترو لا يزال حياً، عدا عن اتهامي شخصياً بأني لطالما كنت أكثر اعجاباً بـ "الامبريالية". في ذلك الوقت الذي ليس بالبعيد، ظننت ان كلمة امبريالية اندثرت وسقطت من التداول، إلى أن جاء من يذكرني بها.

 

واليوم أيضاً، وكما في بلدتي الصغيرة كذلك على مستويات أوسع، ثمة من من يعلي الشعارات الرنانة على دوائه وخبزه اليومي، وذلك يصبح بالطبع أسهل عندما لا يكون هو المتضرر الاول. فماذا يخسر رجل متحمس في بلدة لبنانية صغيرة إن أعلن دعمه لزعيم يقع على المقلب الآخر من الكرة الارضية كمادورو مثلاً؟ خسارته الفعلية واقعة من كونه مواطن في بلد كلبنان، أما زعمه الوقوف الى جانب القضايا العادلة عالمياً، فمما يمكن أن يضاف الى سجله الثوري "الاخلاقي". لكن إن جئت تقيم معه حسابات الحقل وحسابات البيدر، تعثر وتلعثم.

 

فإن قلت لهؤلاء مثلاً أن فنزويلا تعاني من مجاعة فعلية، وهي البلد الغني بالنفط والمعادن والثروات الطبيعية، وإنها تراجعت اقتصادياً حد بلوغ القاع بسبب السياسات الخاطئة، فأنت لا شك تقف ضد العمال والفلاحين. وإن قلت إن السلع الاساسية من صابون، ودواء وحفاضات وحليب اطفال، وطحين وارز ولائحة السوبر ماركت كاملة مفقودة كلياً، وإن بعض المقتدرين يسافرون الى ميامي لشراء حاجياتهم بين فترة وأخرى، فيما يتاجر آخرون بما يحضرونه في السوق السوداء، فأنت أثبت بالدليل القاطع انحيازك لاميركا. وإن قلت ان العدالة تقتضي بأن يتنعم أهل البلد بخيراتها وأن السياسي الوطني يفترض ان يؤتمن على تسيير حياة الناس اليومية لا على سياسات دونكيشوتية عابرة للأوطان، لا تغني ولا تسمن فأنت مجرد انعزالي آخر، لن يوقف قطار الاممية العالمية آخذة بالتقدم… من هناك، من خيمة اقتراع في بلدة نائية.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.