شعار قسم مدونات

لصوص الأماكن

blogs خيانة

تزج بنا الحياة في أماكن لا تشبهنا ولا نشتهيها، تسطو على أمكنة تحدينا المصائر لنحصل عليها، العديد من هذه الأماكن نهبت من أصحابها ووهبت إلى آخرين دبجت الصدفة حظوظهم وجعلت ظروفهم أكثر خصوبة. إنه منطق الحياة التي نبقى نصارعها حتى نشيخ، تواظب العبث بنا وبأماكننا، وتحلق بنا عاليا ثم تنفثنا لجوف الأرض، وتوقر من كان منا في حضيضها وتبجله، فالدنيا تدور بنا بطريقة مبرحة، وتأبى أن تقصينا عن المعارك المفروضة علينا والتي نلاحظ نضجها مع مرور الوقت.

لن تستطيع أن تفهم مغزى عبثية مشهد النزال الذي يحتم عليك أن تمارسه يوميا، لكنك ستدرك من المعركة الأولى أنك تواجه لصوصا أردأ من الشياطين، يتميزون بالخساسة والدناءة والوقاحة، ويستمرون بالتحليق حولك طوال حياتك، هؤلاء اللصوص الذين يتشدقون بالرحمة والإحسان رغم عتوهم لا يأبهون بضحاياهم الذين تمزق التناهيد المائجة مسامهم، ويمور وصب أنينهم، وتخنقهم حشرجة الندم بعد أن يدركوا حجم فجيعة نهب أماكنهم، ويتضاعف ألم بعضهم بعد أن يكتشفوا أن أماكنهم سرقت من قبل لصوص يشاركونهم اسم العائلة أو آخرين اقتسموا معهم رغيف أسرارهم.

هؤلاء الضحايا عندما نصادف قصصهم المحشوة بالخيبات والخسارات والتي تتسرب داخل يومياتنا خلسة، نصاب بحمى الصدمة، ونحاول لجم حالة الذهول التي تعترينا بسبب بعض النهايات، فلن أنسى صديقتي التي جبلت نفسها على عون وحب زوجها لسنوات لكنها تفاجأت بأن أقرب صديقاتها قد احتلت مكانها في قلب زوجها وفي قسيمة الزواج، ولن أنسى أيضا ذلك العجوز الجليل الذي يغمره سؤال دائم، لماذا يجاور السأم مع عجائز في دار يفيض بعيون وجلة بدلا من أن يجاور أحضان أبناءه الذين تتصدر نجاحاتهم وحفلاتهم عناوين الصحف.

 

لا تفقد شهية رسم علاقات جديدة، ولا تمارس التشكي لأنه من شيم الخائرين، ولا تكترث بجعجعة الشامتين، وتعلم فن حسن اختيار المحيطين بك، واحرص أن لا ترشد لصوص الأماكن على عنوان مكانك الجديد

ويحدوني الأسى كلما تذكرت تلك الأم المكافحة التي تاخمت الوحدة صباحاتها بعد أن اختلست مكائد زوجة ابنها مكانها، وتنتابني حرقة قارسة على ذلك الطفل الذي استجدى مرحمة أبيه بعد أن غاض بظلم زوجة أبيه التي سرقت منه أمنه، واستذكر بحزن ذلك الصديق المجتهد في عمله والذي أميتت كل إنجازاته ونجاحاته بعد أن تلقى رصاص الواسطة من جاهل متواكل، وأصاب بالوجوم عندما أدرك عدد المظلومين الذين نصبت مشانق بؤسهم من قبل رذلاء سرقوا منهم أماكنهم وصكوك البراءة بسبب ميزان عدل معقور، ويتمدد اليأس داخلي كلما أمعنت التفكير في حال الفاسدين الذين احتكروا سخاء ونوال الأوطان لأنفسهم، وتسببوا في زيادة أعداد الشباب الملتحقين بموكب الغربة.

هؤلاء اللصوص رغم نذالتهم وفحش مبادئهم لكننا بسببهم تعلمنا أن الثقة المطلقة بالبشر بلاهة، وأن المجاهرة بالأحلام حماقة، لذلك عندما تواجههم أمامك حلان، إما أن تتهيأ وتحشد شجاعتك، وتسن نصل جسارتك، وتمتزج بالصبر لتعيد مكانك إلى غمدك، أو أن تختار الهروب لتصوغ بداية جديدة، هذه البداية تحتاج أن تكون صنديدا وأن تؤمن أن الهمم تخمد الهزائم، عليك أن تآلف لغة اللامبالاة، وأن تروض إحساس الفقد الذي سيعتلي أوقاتك، استقوي باليقين بأنك ستظفر بمكان باهر، ولا تفقد شهية رسم علاقات جديدة، ولا تمارس التشكي لأنه من شيم الخائرين، ولا تكترث بجعجعة الشامتين، وتعلم فن حسن اختيار المحيطين بك، واحرص أن لا ترشد لصوص الأماكن على عنوان مكانك الجديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.