شعار قسم مدونات

بصمات صندوق النقد في جريمة "الوراق"

blogs - Christine Lagarde

لم تكن الأحداث التي شهدتها جزيرة الوراق بمصر، إلا حلقة من حلقات عقيدة الصدمة التي يؤمن بها النظام المصري كأي نظام ديكتاتوري انقلابي، ويمتثل لها في كل أفعاله. سيناريو واحد مكرر في كل الدول التي تعرضت لانقلابات عسكرية بدعم أمريكي، وبسبب اقتصادي بحت غير ظاهر للعلن (تشيلي – الأرجنتين – البرازيل – بوليفيا – جواتيمالا – بنما – إيران.. إلخ) حيث كانت الشركات الأمريكية "الكوربوقراطية" المحرك الرئيس لهذه الانقلابات.

منذ الثمانينات.. وصندوق النقد والبنك الدولي تعهدا بحماية مصالح تلك الشركات تحت زعم الدعوة للسوق الحرة، ففي عام 1983.. أصدر صندوق النقد برنامجه الكامل لـ"التعديل الهيكلي" ومنذ ذلك الحين، كانت كل دولة تلجأ إلى صندوق النقد طالبة قروضا كبيرة، تُبلغ بأنه عليها إعادة هيكلة اقتصادها من رأس الهرم حتى القاعدة.

وفي وقت لاحق، اعترف دافيسون بودهو، وهو اقتصادي رفيع المستوى في صندوق النقد الدولي صمم برامج التعديل الهيكلية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، اعترف قائلا: "كل شيء قمنا به انطلاقا من العام 1983، كان مرتكزا على حسنا الجديد بوجوب أداء مهمتنا في "خصخصة الجنوب" أو إهلاكه. وعلى ضوء هذه الغاية، عمدنا بشكل مشين إلى خلق منطقة هرج ومرج في أميركا اللاتينية وأفريقيا".

استمر البنك الدولي في حث مصر على اتباع روشتة الإصلاح الهيكلي في عهود المجلس العسكري ثم مرسي، ولكن القيادتين لم تجرؤا على اتخاذ الخطوات الصعبة المتمثلة في رفع الدعم وتعويم العملة

السيسي يعلم تمام العلم أن بقائه في السلطة مرتهن بامتثاله لأوامر الصندوق والبنك الدوليين، حكام مصر الفعليين، ولن يتوانى عن تنفيذ مطالبهما القديمة الجديدة، فكل ما نفذه السيسي من أوامر، سبق وأعلن عنه جمال مبارك تحت مسمى "القاهرة 2050".

"التعديل الهيكلي" الذي أعلن عنه الصندوق والبنك يمكن تلخيصه في 3 نقاط، نفذتهم كل الدول سالفة الذكر.. هي:
1- خفض عجز الإنفاق، بخفض الالتزامات (الدعم) ورفع الإيرادات (أسعار الطاقة).
2- الاندماج الكامل في الاقتصاد العالمي بنبذ مبدأ الاكتفاء الذاتي في جميع المجالات وإزالة العوائق أمام التجارة العالمية وتسهيل تنقل الأموال عبر الحدود بدون ضرائب (أو بأقلها) وبدون قوانين عمل تقيد المستثمرين.
3- الاعتماد الكبير على إطلاق سوق عقارية قوية تحفز المواطنين والأجانب على الاستثمار وتطلق حركة إنشاءات قوية تكون هي المحرك الرئيسي للاقتصاد.

السيسي امتثل للنقطتين الأولى والثانية، عبر إجراءات قمعية عنيفة (الغريب أن السيسي مصرّ أن الشعب قبل الإصلاحات الاقتصادية) شأنه في ذلك شأن كل مستبدي أمريكا اللاتينية من بينوشيه تشيلي، إلى لا باز في بوليفيا مرور بالطغمة العسكرية في الأرجنتين والبرازيل وغيرهم.

النقطة الأخيرة لم ينجح مبارك في تنفيذها، وهي التي سبق وقدمها جمال مبارك كورقة اعتماد له أمام صندوق النقد والبنك الدولي، ليضمن رئاسة مصر، ضمن المشروع سالف الذكر "القاهرة 2050".. فمع تولي جمال مبارك قيادة مصر الفعلية (ومعه لجنة سياسات الحزب الوطني) في 2007، بدأ البنك الدولي في صياغة ما أسماه "رؤية القاهرة 2050". تلك الرؤية اكتملت في أبريل 2009، وأعلن عنها وزير الإسكان أحمد المغربي والدكتور مصطفي كمال مدبولي رئيس هيئة التخطيط العمراني، ونشرت صحف الأهرام واليوم السابع أخباراً عن نقاشات مجلس الشعب حولها. كما نشرت مجلة "وجهات نظر" في عدد مايو أو يونيو 2009 ملخص للدراسة في نحو 15 صفحة من القطع الكبير، بقلم الوزير أحمد المغربي. 

رؤية القاهرة 2050 اهتمت بمظهر المدينة العام، حتى أن مجلس الوزراء عقد أكثر من جلسة في 2009 لمناقشة منظر أفق المدينة Skyline والتاكسي الطائر واستخدام النيل كمحور ترفيهي. أبرز عناصر رؤية القاهرة 2050 كان تفريغ العاصمة بنقل الوزارات إلى عاصمة جديدة في محيط القاهرة وإنشاء حي خدمات مالية مشابه لجزيرة منهاتن بمدينة نيويورك. هذا الحي سيكون في "جزيرة الوراق" ومقار شركات في جزيرة الدهب، وتطوير الواجهة النيلية بداية من مثلث ماسبيرو حتى روض الفرج بمساحة 1200 فدان بطول 6 كيلومترات.

وبدأ على الفور في أبريل 2009 تحركات أمنية في جزيرة الوراق لبدء مصادرة الأراضي بزعم أنها مأخوذة بوضع اليد. وحدثت صدامات بين المواطنين والشرطة آنذاك، جعلت الدولة تتوقف عن تنفيذ المشروع، ولعل إحجام نظام مبارك عن تنفيذ الإصلاحات الهيكلية المطلوبة من البنك الدولي، كانت سبباً في قرار إقالة مبارك واستبداله بالمجلس العسكري.

 

استمر البنك الدولي في حث مصر على اتباع روشتة الإصلاح الهيكلي في عهود المجلس العسكري ثم مرسي، ولكن القيادتين لم تجرؤا على (أو لم تريدا) اتخاذ الخطوات الصعبة المتمثلة في رفع الدعم وتعويم العملة. ثم جاء السيسي وقام بالخطوتين الرئيسيتين، بخطوات قمعية غير مسبوقة. فأصبح لزاماً عليه تنفيذ العنصر الثالث في روشتة البنك الدولي، ألا وهي: إطلاق سوق عقارية قوية عبر رؤية البنك الدولي المسماة "القاهرة 2050". وهو ما دفع السيسي لمحاولة إخلاء جزيرة الوراق حتى يتم تطويرها حسب رؤية البنك الدولي. (الثلاث فقرات الأخيرة نقلا عن العالم المصري نايل الشافعي).

يمكن أن نعتبر أن المكان الأنسب للتظاهر ضد سياسات السيسي الاقتصادية، والمكان الأنسب للتضامن مع أهالي الوراق، هو مقر إقامة رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في مصر

إذن، ليس أمام السيسي إلا تنفيذ الخطوة الأخيرة، التي تنطلق من الوراق، مرورا بجزر أخرى مثل الدهب والقرصاية ومثلث ماسبيرو، فهل سيقدر على ما عجز عنه مبارك، مستعينا بالقمع والبطش غير المسبوق، أم أن هناك ثمة حل؟ وهل الحل في المحاكم التي سبق وأقرت بأحقية أهل الوراق بملكية أراضيهم؟ أم أن الحل في التظاهر؟ وإذا كان التظاهر هو الحل؟ فما هو المكان الأنسب لذلك؟

من السرد السابق.. يمكن أن نعتبر أن المكان الأنسب للتظاهر ضد سياسات السيسي الاقتصادية، والمكان الأنسب للتضامن مع أهالي الوراق، هو مقر إقامة رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في مصر، المدعو كريس جارفيس، فهو الحاكم الفعلي لمصر والموجه لكل سياساتها الاقتصادية في السنوات الأخيرة.

ومنعا للتثبيط والإحباط، بأنه لا جدوى من التظاهرات أمام مقر جارفيس، نذكر بمقولة ممثل صندوق النقد الدولي في بوليفيا، عام 1985، حينما عرضت عليه مسودة برنامج المعالجة بالصدمة، التي ارتكزت على حذف الإعانات الغذائية وإزالة كل أنواع الرقابة على الأسعار، ورفع سعر النفط 300 في المائة، وتجميد أجور الموظفين بالحكومة عند مستويات متدنية لمدة عام، و "فتح الحدود على مصراعيها أمام الوارادت غير الخاضعة للقيود وتجحيم شركات القطاع العام". حينما عرضت المسودة على ممثل الصندوق، قال: "هذا ما يحلم به كل موظف في صندوق النقد الدولي. لحسن الحظ أنه لدي حصانة دبلوماسية، ويمكنني أن ألحق بالطائرة وأنفذ بجلدي، في حال لم ينجح ذلك".

المجموعة نفسها التي اقترحت الخطة، لم يكن لهم مخرج مماثل للفرار، وكان العديد منهم مرعوبا من ردة فعل الجمهور، وافترض فرناندو برادو، أصغر عضو بالمجموعة، أن الشعب سيقتلهم.. فهل خيار التظاهر أمام مقر جارفيس هو الأمثل؟ فلنجرب ثم لنحكم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان