قبل عشر سنوات من اليوم كانت أول "تدوينة" تجد طريقها على شبكة الإنترنت، الدخول الأول لعالم الكتابة المنشورة، كثير من الذاتية، الشغف وأحلام التغيير والتأثير، عالم المدونات الصاخب بما فيه من وهج وألق، وما تلاه من نضج وسكون.
لتوّي كنت قد انتهيت من مرحلتى الثانوية وانفككت عن قيد المدرسة إلى رحاب الحرم الجامعى وما يحمله الخيال من حماسة الانطلاق المحموم نحو تحقيق الذات وإيجادها بين الفعل والكلمات، كان كل شىء ذا بهاء بما فى ذلك صفاء الابتداء وشغف الاكتشاف ودهشة التعلّم، والروح الحيّة بالمشاركة والمناقشة.
كانت "المدونات" – في حينها – الباب السحرىّ للإعلان عن الذات، الأفكار والمشاعر، كل شىء كان متاح بقدرٍ ما، حتى المعارضة السياسية التى كانت محظورة فى قنواتها الرسمية كان لها حضورها القوى بين المدونات التى تمايزت تدريجياً حتى أخذت كل مدونة طابعها العام بين الذاتي والسياسي والاجتماعي.
أذكر الآن مدونتي الأولى والوحيدة "كراكيب فزلوكة" بكثير من الحنين، حيث كانت المغامرة بالكشف عن الذات وطرحها بين الكلمات مغامرة آمنة لا تخشى معها ما عرفته الشبكات الإجتماعية بعد ذلك من الاستباحة والتجريح والقدرة الخرافية على الهدم المعنوى، ربما لأنه – أى عالم المدونات- بواقع الأعداد كان مجتمعاً محدودا يحمل قدراً من الحميمية فضلاً عن أدب البدايات، أو أننا كنّا نتحلى بحماقة الجهل التى تسعفنا فى أحيانٍ كثيرة فنركن إلى ثقة معرفتنا الدقيقة بأنفسنا مطمئنين إلى الأحرف أنها حين تعريّنا تسترنا من جانب آخر، أو أنه ذلك كله!
هذه الكلمات ذاتها كانت – للمفارقة – مفتاح صداقات جديدة مَدار القرب والبعد فيها هو الكلمة، شبكة إجتماعية تشكّلت من نسيج الأحرف المنثورة على طرق الشبكة العنكبوتية فكانت مرايا أصحابها؛ تراهم بالعين التى يريدونها ويرونك بالعين التى تريد، وعلى هذا فمن لم يجد فيها صديق الطبع وفيق العقل، وجد فيها رفيق الفكرة وشريك البداية له من الذاكرة والذكريات نصيب.
مدونتى التى بدأتها بالتعريف عمّا سيكون فيها بأنه مجموعة من الأفكار والمشاعر غير المنظمة تشبه فى حالها "الكراكيب" واحتفظت بلقبي بين صديقات الطفولة "فزلوكة" |
مضى عِقد من الزمان على تلك الذكرى، يبدو هذا تاريخا بدرجة ما، كما يبدو مدخلاً جيّدا لمعرفة جيل كامل تفتح وعيه على منصات مفتوحة يكتب فيها ما شاء، يعبّر عن أحلامه وطموحاته بالطريقة التى يريدها، يدرك بصورة ما قوة ما فى يده ويطمع فى المزيد، يدور بين الأمكنة ويطوّع كل الإمكانات لإثبات وجوده، أذكر هنا لقاءات المدونين والمحاولات غير المكتملة لبناء كيان مؤسسى لهم، حتى كان ربيع الثورات العربية، واتسعَ الحلم الصغير ببعض الإصلاحات السياسية والإجتماعية إلى حلم أكبر وأعمّ وأكثر إغراءاً بالتمرد والمواجهة.
اليوم، بينما تتساقط أحلامنا كأوراق الخريف الذابلة على أرصفة أعمارنا الماضية فى طريقها، مرتبكين بين قوة وضعف، بين أملٍ لا يعطينا من غدِه شىء ويأس لا يعيطنا من أمسه شىء، فارغين من العزم والإحباط معاً، يتبادلنا الشك واليقين فى اليوم مئة مرّة، بين هذا كله يبدو ظل مدونتى وأيامها الخوالي طيف ذكرى شفيف أحمل له الكثير من الامتنان والعِرفان، فمدونتى التى بدأتها بالتعريف عمّا سيكون فيها بأنه مجموعة من الأفكار والمشاعر غير المنظمة تشبه فى حالها "الكراكيب" واحتفظت بلقبي بين صديقات الطفولة "فزلوكة".. فكانت "كراكيب فزلوكة"؛ أراها الآن بعينٍ أخرى، أراها "خطّ الوقت" الذي انتظمت فيه أفكارى على مَهلٍ، التجربة التى خَبرت بها جَرأة الإفصاح عن الذات وتشارك الأفكار بكل هذا القدر من الحماسة والشغف، والأهم أنها كانت بابي لصُحبة لازال الودّ بينها، يتقاسمون ذاكرة عشر سنوات عِجاف.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.