عندما قرأت تدوينة "سأطبخ لزوجتي في رمضان وأتركها نائمة" فوجئت بملف قديم من أرشيف الذكريات يقفز إلى سطح الذاكرة بإلحاح.. يعرض مشاهداً متلاحقة عن البدايات، ينتقي منها مواقف ولقطات، يلخص قصة حياة أسرة منذ فكرة إنشائها وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات. كأي فتاة تستمع لشهادات الناس في خاطب أتاها، توقفت تلك الصبية عند شهادة زوجة أبيه تقول لها: عندما يعود إلينا في إجازته الدراسية السنوية أفرح، وأشعر بالراحة، لأنه يحترمني ويرحمني ويساعدني، وخاصة في رمضان، فهو يحضر لنا طعام السحور يومياً ويوقظنا!
لا أدري حينها لماذا بقيت تلك الشهادة ترّن في أذني زمناً، ولماذا حفرت تلك الكلمات في نفسي أثراً أعمق من شهادات الناس حول أمور أخرى، مثل التحصيل الدراسي، القدرة المادية، الوضع الاجتماعي .. وغيرها من الأمور المهمة في الزواج.. لم أدرِ وقتها لماذا ملأ نفسي موضوع تحضير طعام السحور لأهله !كان الموجِّه لاختيار الزوج حينها هو حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه …) نعم هو الدين والخلق، لكن هناك ملمح دقيق كان يستوقفني هو: (من ترضون دينه)، وكنت أردد في نفسي "هو الرضا بالتدين وليس مطلقه"، وبقيت أتساءل حينها كيف يكون ذلك الرضا؟ وهل للتدين أنواع؟!
لقد علمت أنّ من يحترم زوجة أبيه ويساعدها لابد أن يكون بارّاً بوالديه، وأن يحترم ويرحم زوجته، وأنّ من يعطف على الكبير سيكون بأبنائه أشد عطفاً ورحمة. |
لقد تبين أن للتدين أنواعاً تتبع الأنماط الشخصية لأصحابها -كما يقول العلماء- فهناك التدين المعرفي، والتدين الوجداني، والتدين السلوكي، المعرفي يهتم بفهم مبادئ الدين وجوهره ومقاصده، ينظر للقيم والأخلاق، ويتقصى المعلومات. الوجداني تبرز عنده العواطف التي قد ترفعه في مقامات الخوف والرجاء وغيرها. أما السلوكي فيركز على سلوكيات معينة، فيشد مثلاً على صيام التطوع، أو على قيام الليل، أو على تطبيق الأحكام، أو على مظاهر اللباس والطقوس .
وتبين أن لكلّ نوع من أنواع التدين درجات، قد توصل صاحبها للتوازن، وقد تبعده عنه، فصاحب التدين المعرفي أحياناً قد يهمل ممارسات الشعائر الدينية بجانب اهتمامه بالمعلومات، وصاحب التدين الوجداني ربما يكون مقبلاً متحمساً، ولكن لا يهتم بنضوج أفكاره ومعارفه حيال جوهر الدين، أما صاحب التدين السلوكي فقد يبالغ في الشكليات والمظاهر وكأنها هدف في حد ذاتها، ولا ينتبه لمبادئ وقيم الدين كالعدل والرحمة وما شابه. ويكون رضا الفتاة وأهلها عن نوع ودرجة تدين الخاطب هو الميزان الدقيق لحصول التوافق بين الزوجين، فقد يكون التشابه بما يدعو للانسجام، أو الاختلاف بما يدعو للتكامل، إنه التفهم والرضا.
عندما سألته وقتها لماذا تساعد النساء في أمور البيت؟ أخبرني عن فهمه لحديث رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، حدثني عن الخيرية في التطبيق النبوي، كما بينت عائشة -رضي الله عنها- بقولها: (كان يكون في مهنة أهله – تعني في خدمة أهله – فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة). وكما قالت عنه عليه الصلاة والسلام: (يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم)، وأنه يأمل أن يكون من خير أتباع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن يكون لبنة في أمّة أرادها الله خير أمة.
حدثني عن فهمه لمعنى القوامة، التي أرادها الله للرجال على النساء كما طبقها النبي الرحيم مع أهله، بمعنى التكليف وكثرة قيامه على شؤونهن، والتي هي أوسع من رجل يقود امرأة وأسرة، والتي هي أعمق من رجل ينفق وامرأة تخدم، بل هي في توفير راحة البال لها بعدة درجات أولاها النفقة عليها، لتبدع في تربية أبنائها، ولتضفي عليه وعلى بيته سعادة وسكينة، ولتقدم للمجتمع إضافات نوعية، إن كانت من ذوات الدين.
عندما كانوا يسألوني في بداية زواجي عن حالي كان أول جواب يخطر في بالي: إنني أشعر بالسكينة وبالمودة والرحمة، ولو سُألت الآن لكررت نفس الجواب |
أخبرني عن ثقافة المشاركة بين الزوجين، والتي ظهرت في مساعدة نبيينا العظيم لأمّنا عائشة رضي الله عنها في أمور البيت اليومية رغم انشغاله بأمور أمّة، وأشعرني بمفهومه للرحمة والمودة بين الزوجين، وسبل تحقيقهما ورعايتهما في تفاصيل الحياة اليومية.
لقد رضيت زمنها بفهمه لجوهر الدين، وبتفاعله معه، وبطريقة تطبيقه.. ورضيت به زوجاً، وأباً لأبنائي، ولم أندم بحمد الله، وهذا لا يعني أننا لم نختلف، ولكنه يعني أننا نعلم أن الاختلاف ليس في الجوهر، ويعني أننا نعرف – بفضل الله – كيف ندير ذلك الاختلاف.
لقد علمت أنّ من يحترم زوجة أبيه ويساعدها لابد أن يكون بارّاً بوالديه، وأن يحترم ويرحم زوجته، وأنّ من يعطف على الكبير سيكون بأبنائه أشد عطفاً ورحمة، وأن من يفهم القوامة تكليفاً سيسعى لراحة بال وقلب شريكته، وسيدفعها للعطاء والنماء، خدمة للدين والحياة.
عندما كانوا يسألوني في بداية زواجي عن حالي كان أول جواب يخطر في بالي: إنني أشعر بالسكينة وبالمودة والرحمة، ولو سُألت الآن لكررت نفس الجواب، وهذا يعني أنه -بحمد الله وفضله- قد تحقق من ارتباطنا المقصد من بناء الأسرة الذي أراده الرحمن لنا. ابنتنا الكبرى عمرها اليوم واحد وعشرون عاماً، ولكنيّ أشعر أن ارتباطنا كان أمس الأول.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.