"لو عندك كرتون هات.." تلك الجملة كانت آخر رسالة مني لصديقي عصام مهدي قبيل مدفع الإفطار، عصر يوم 15 يونيو. بعدها بدقائق انقطعت الرسائل بيننا.
كنا لم نلتق منذ مدة، حاولنا ترتيب أكثر من موعد ففشلنا. مرة لأننا لم نعثر على ثالثنا العزيز: محمد جبر، ومرة لأنني كنت في القاهرة.. في تلك "العصرية" فتحت "المسنجر" لأقترح عليه أن نلتقي، فإذا برسالة منه بالاقتراح ذاته. أذهلتني المفارقة، وضحكنا. طلبت منه إحضار أفلامه على "الهارد" لأنسخها على اللاب توب الخاص بي، مؤكدا على إحضار أفلام الكرتون المتاحة لديه. رتبتُ مع لؤي القهوجي ولم أعثر على جبر. قبل أن أرسل لحسني، باغتني لؤي برسالة: "عصام اتمسك من البيت".
عصام مهدي واحد من القليلين المقربين مني. منذ سنين، لا أخالط إلا قليلين من الأصدقاء. عرفت "عصام" منذ كنت في السجن زميلا لصديقي لؤي، الذي حكى لي عنه، ثم وصلتني رسالة منه، حدّثني فيها عن روايتي "روائي المدينة الأول". فور أن قرأتها عرفت أننا سنصبح صديقين. بعد خروجي عرفتُ، بالصدفة، أنه وجبر اشتريا نسخا من رواياتي وقاما بتوزيعها على بعض المكتبات لبيعها وترويجها. أما أن يُعتَقَل عصام، فأعجز حتى الآن عن رؤيته في القسم أو المحكمة (لأنه فوق احتمالي)، فهذا لم يخطر لي على بال.
منذ سنين كثيرة قرأت "رأيت رام الله" لأستاذنا مريد البرغوثي، فأذهلني. كنت أصغر، أقل تجارب، أضيق خيالا. صدمني هذا النمط من الحياة: لا شيء مستقر، لا اطمئنان في أي وضع. في القاهرة، ينزل الأب مريد ليلتقط قطعةً من ملابس طفله الرضيع تميم سقطت من الشرفة، فلا يصعد.. يلتقطه رجال الشرطة المصرية، يعتقلونه ويرحّلونه من مصر لأنه خطر عليها، مثلنا تماما!
إخوتنا الفلسطينيون يعانون في هذه الحياة لأن نظاما صهيونيا يحتل بلادهم وينكل بهم. سيظل من واجبنا الدفاع عن حقوقهم المهدورة، لكن لماذا نعاني الغربة ذاتها في وطن يحكمه السيسي الذي زعم أننا "نور عينيه"؟ |
وقفتُ طويلا عند هذه اللقطة: إنسان ينزل الشارع ليلتقط قطعة من ملابس طفله، لم يودع زوجته رضوى، لم يمنح طفله قبلة وداع، لم يجهّز حقيبة سفر، لم يملأ عينيه من منزله وكتبه وأشيائه الخاصة؛ نزل يحضر سروالا صغيرا مبللا، لعله سرح مع فكرة عابرة مثل تدبير عشاء الليلة… فجأة حرفت الشرطة مسار حياته إلى غربة طويلة، لم يلتق زوجته وطفله إلا بعد زمن طويل، خارج مصر. كيف يمكن أن يعيش البشر هكذا؟ في لحظة مباغتة أخرى، مات أخوه الأكبر في فرنسا.. في لحظة عابرة جدا، ذهب أخوه إلى الأبد.
إخوتنا الفلسطينيون يعانون هذه الحياة لأن نظاما صهيونيا يحتل بلادهم وينكل بهم. سيظل من واجبنا الدفاع عن حقوقهم المهدورة، لكن لماذا نعاني الغربة ذاتها في وطن يحكمه السيسي الذي زعم أننا "نور عينيه"؟ قبل اعتقالي خلال مظاهرة سلمية في 2013، طلبت مني أختي الصغرى أن أقترح طريقة للاحتفال بعيد ميلاد خطيبها الذي طالما احتفل بها بطريقة رومانسية. كنت أنوي أن أقترح أفكارا وأساهم في تنفيذها، لكن وزارة الداخلية، (مشكورة) حلّت المشكلة. اعتقلتْني وسجنتني قرابة السنتين، تزوجتْ فيهما أختي وأنجبت طفلة، ظللت بعد خروجي من السجن، أخلط بينها وبين طفل أخي وطفلة أختي الأخرى. لا داعي إذن لإرهاق نفسي في أعياد الميلاد. يوم قرأت لأستاذنا مريد لم يخطر لي أننا سنحيا حياة كتلك الحياة!
الحق أنني تعافيت من آثار ذلك. لا حاجة لي الآن بتعاطف أحد. أكتب عن ذلك لأنه لا يخصني، بل يخص ملايين البشر في مصر، الذين يُسجن أحبابهم سنوات طويلة بحبس احتياطي عبثي، أو يُقتَلون في السجون بالإهمال الطبي العمدي، أو يختفون قسريا ثم يُحكم عليهم بالإعدام على تهم اعترفوا بها تحت التعذيب..
كم مصريا رتّب موعدا مع صديق أو قريب، ثم عرف أنه اختفى؟ متى سأجالس "عصام" ثانية؟ في اللحظة التي كان عصام (اليتيم الأب) يستعد للإفطار مع أمه وشقيقته، داهمت الشرطة البيت واعتقلته. ظل مختفيا ثلاثة أيام تقريبا ثم ظهر في النيابة، متهما بتهم يوزعونها علينا مثل النكات السخيفة. ما زلت أترقب أخبار أصدقائي، متوقعا بين لحظة وأخرى، أن أسمع خبر اختفاء أحدهم، أو أن يسمعوا هم خبر اختفائي.
الأغرب أنه لم يمارس نشاطا سياسيا منذ سنوات على ما أذكر. قبل اعتقاله بيوم نشر على صفحته على الفيس بوك تدوينة لصحفي نابه، اقترح أن التظاهر الآن في صالح النظام الحاكم، ذاكرا لذلك أسبابا وجيهة لا محل لعرضها الآن. لماذا اعتقلوا عصام في اليوم التالي؟ بحسب متابعتي، لم يحتشد أحد تقريبا، فما جريمته؟
أصدقاء معدودون حكيتُ لهم أنني أكتب سيناريو فيلم تحريك "أنيميشن". حين حكيت لعصام سألني عن تفاصيل الفكرة، عرفني بصديقة "سيناريست" جميلة استفدت من خبرتها. مرة سألني عن أخبار السيناريو فقلت له إنني بدأت مرحلة كتابة النص، فاقترح أن أعطيه الأوراق التي كتبتُها لينسخها على الكمبيوتر. أثّر فيّ هذا التواضع والمحبة والإخلاص. استحييتُ أن أثقل عليه لأنه كان مشغولا بإبداع "أبليكيشن" للموبايل، كان يحلم بالنجاح في تسويقه، فقلت له شاكرا بأن خطي سيئ جدا على الورق، فلابد من متخصص لينسخها على الكمبيوتر، مع وعد بإرساله إليه فور نسخه. حدث ذلك وعصام في السجن. انكسرتْ فرحتي.
كنت أفكر في مورد دخل، فشاورت عصام في فكرة إنشاء قناة أوريجامي على اليوتيوب أنشر عليها القطع التي أصمّمها، فأنشأ لي القناة، ونشر عليها مقطع فانوس لي، وظل يلحّ عليّ ويشجعني على استكمال الفكرة وتصوير قطعي الأخرى لينشرها |
في رمضان 2016 صممتُ فانوس رمضان بالورق الملون، وهو ما يُسمى فن الأوريجامي (فن طي الورق). كان الفانوس إهداء للمعتقلين المصريين، وقد سمّيتُه باسم صديقي العزيز طاهر مختار. طلب بعض الأعزاء مقطع فيديو شرح كيفية تطبيق الورق ليصبح فانوسا، ليطبقوه لمعتقلين في محافظات مختلفة. ظهر عصام مرة أخرى، عرض عليّ تصويري بكاميرا الفيديو الخاصة به وأنا أطبّق الفانوس، وقد كان.
كنت أفكر في مورد دخل، فشاورته في فكرة إنشاء قناة أوريجامي على اليوتيوب أنشر عليها القطع التي أصمّمها، فأنشأ لي القناة، ونشر عليها مقطع الفانوس، وظل يلحّ عليّ ويشجعني على استكمال الفكرة وتصوير قطعي الأخرى لينشرها، لكنني أهملت ذلك حتى أغلق اليوتيوب القناة لسبب تقني.
ثمة سر آخر لم يعرفه عصام. قبل اعتقاله أحببتُ فتاتي "ميار". ثم تعثر حبنا، فانقطعتُ عن رؤيتها. على الفيس بوك، كتبتُ مرورا عن اعتقاله فخافت عليّ، اتصلت بي وطلبت لقائي خوفا من تدهور حالتي النفسية مع استمرار إخفائه القسري. قلت "للميّورة" إنني أعاني كآبة تلامس الانهيار. التقينا كصديقيْن فجَرَفنا الحب. عرفنا أنه قدرنا، اتفقنا أن نكمل مشوار الحياة معا. كلمات حبنا اختلطتْ بتساؤلاتنا المذعورة: هل يُعذّب عصام الآن؟ هل سيُعذب طويلا قبل ظهوره؟ (ملحوظة: الأصدقاء الذين رأوه بعدها في المحكمة لم يروا أثرا ولا دليلا على تعذيبه).
أتخيل الآن كيف سيتخذ عصام والأصدقاء هذه المفارقة مادة للمزاح و"القلش".. أخيرا، أصبح عصام مُلهِما لقصص الحب!!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.