شعار قسم مدونات

"أغلِق الأقصى" ليست أولى الأخبار ولا آخرها

إجراءات الاحتلال العسكرية في القدس وعلى أبواب الأقصى
تموتُ بعضُ الأشياء فينا ببطء، تُحفَرُ بعضُ التضاريس في أرواحنا بنقاطِ ضعفٍ توالَت عليها مُتباطئة أو متسارعة، لا شيء يزرعُ الكسرَ فينا كتراكُمِ الاعتياد على الأحداث حيناً بعدَ آخر. تنظُرُ لزاويةٍ من جدارٍ فتعجَبُ متى حلَّ كلُّ هذا الشق فيها، فتذكرُ أنّه قد بدأ يسيراً ثم شيئاً فشيئاً صارَ إلى ما هو عليه الآن. تموتُ هذه الأمةُ ببطء، تتراجَعُ ردود الفعلِ فيها حتى تصلَ مرحلةَ الفناء. وما قيمة ردود الفعل؟ هل تراها تُسمِنُ أو تغني من جوع؟ 
إنّكَ لو زرتَ طبيبكَ يوماً تشتكي وجعاً أصابَ رِجلك، ستجد الطبيب يمسكُ أداةً يطرقُ بها قريباً من ركبتك ليرى ردّة فعل هذه الرِّجل، بما يدلُّ على سلامةِ الانعكاسات العصبية فيها من عدمها. فإذا لم تكن هناكَ أي ردة فعل أشارَ ذلك إلى اعتلالٍ أصاب العصب أو مرضٍ حلّ بالجسم.

ردود فعلكَ عندَ المواقف والأحداث دليلُ شعورٍ تحملهُ داخلَ روحك، وتتراجع هذه الردود فينا بتزايد حجم الموتِ الذي أصابنا ببطء عاماً بعدَ آخر. كانَ يجدرُ بالأحداث أن تزيدنا رباطاً مع قضايانا إلّا أنها يبدو قد جعلتنا نعتادُ القهرَ كأيِّ شيءٍ عابرٍ بلا قيمة تُذكَر.

لقد كانت مُلكية المسجد الأقصى على مر الزمان علامةٌ للأمةِ في صلاحها من عدمه، واليوم إذ يملكُ عدوّنا قرار منع الأذان أو إغلاق الأبواب أو تقسيم المكان زمانياً أو مكانياً فالأمرُ أعظمُ من أن يكونَ سهلاً يسيراً لما في ذلكَ من دلالات على سوء حال هذه الأمة وعلى الموتِ البطيء الذي أصابها.

ليست أولى الأخبار ولا آخرها، لكنّها علامةٌ تجعلُكَ تعاودُ النظر في موقعك ومكانك. هذه الأمة تمضي إلى الخلف مرحلة تلو أخرى، يتراجع فيها إحساسها وقيمتها وآثارها، وإنّي وإياك وكلّنا بناء هذه الأمة وقوامها، بعجزنا تعجَز، وبقوّتنا تقوى.

لا تجزعوا من جملٍ تقلل شأن ردّة الفعل وتخفف قيمتها، بل اجزعوا من قلبٍ لا يأسى على حالٍ وصلنا إليه، ومن روحٍ لا يُحزنها منظر الأقصى مُفرّغاً من كلٍّ أهله وأحبابه. "للأقصى ربٌ يحميه" قد تحمل نبرةً بائسة مستسلمة إن قيلَت في غير موضعها، "للأقصى ربٌ يحميه" لا تتجاوزَ كونها أحرفٌ أصابها الوهن إن كتبتها وأنتَ تكمل حياتكَ غيرَ آبهٍ بما يحدث، ولا متأثّرٍ بما يجري.

نعم، يستحق هذا المسجد الأقصى حيزاً من ردودِ أفعالنا، تستحقُ ساحاته الفارغة أن تشغلَ اهتمامنا وأخبارنا، موتى نحنُ متآكلون بعجزنا إن لم تضعُ الأحداث فينا آثارها. أن تمرَّ ليلةُ القدسِ بلا أذان الأقصى بين جنباتها، وأن يمضي نهارُ هذه المدينة بلا صلواتٍ في مسجدها المبارك، وأن تقرأ عن اشتباكات ونزاعات وشهادة فليس ذلك أول الطريق ولا آخره، ليست أولى الأخبار ولا آخرها، لكنّها علامةٌ تجعلُكَ تعاودُ النظر في موقعك ومكانك. هذه الأمة تمضي إلى الخلف مرحلة تلو أخرى، يتراجع فيها إحساسها وقيمتها وآثارها، وإنّي وإياك وكلّنا بناء هذه الأمة وقوامها، بعجزنا تعجَز، وبقوّتنا تقوى.

قد لا تنتصر الأمة بردود الفعل الآنيّة، لكن ردود الفعل هذه إن لم تصدر فالأمة تغطُّ في نومها وبُعدها، لا ينصرُ الأممَ شيءٌ كنهضةِ الوعي الذي يجعلها تُزهِرُ وتبني حضارتها، فاجعل الأحداث تولّد ردود الفعل عندكَ ومِن ثم تدفعك لتقييم ذاتك قبل أي شيء آخر، قيّم درجة الوعي فيك، وعلامةَ النهضة في روحك، وأثرَ التغيير في نفسك.

أغلِقَ المسجدُ الأقصى، وإن بقينا على هذا الحال سَيُهدَمُ المسجدُ الأقصى، وسيقول لكَ القائلون حينها: لا تكترث فما في اليدِّ حيلة. وأقول لك، نحنُ مَن نصنعُ الحيلة ومَن نعدم أنفسنا الوسيلة، نحنُ مَن يملكُ أن يجعلَ لنفسه قيمةً من علمٍ وفِكرٍ وتربية، ونحنُ مَن يملك أن يتركَ الأيامَ تمرُّ دونما هذه القيمة. ليس البأسُ ألّا تُدرِكَ لحظةَ النصر، لكنَّ البأسَ كلّه في عمرٍ مرَّ دونما سعيٍ لهذا النصر في نفسه أولاً ثم فيما حوله ومَن حوله. هنيئاً لمَن رابطَ على الصلاح والإصلاح رغم صعوبة الطريق وكثرةِ المتخاذلين، وباركَ الله في ردود الفعل التي تُثمِرُ في النفوس والأرواح.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان