شعار قسم مدونات

دليل الفطرة والوجدان رؤية جديدة

blogs - رجل تعيس
يعد هذان الدليلان من الأدلة البديهية على وجود الله لأنهما نابعان من شعور كامن في نفس الإنسان، وإحساس مجبول على جاذبيةٍ نحو الخالق وتعلق به غريزةً وطبعاً، بعيداً عن الاستدلال والتجربة العلمية.
دليل الفطرة: يقصد بالفطرة ما جبل الله الإنسان عليه في أصل الخِلقة من الأشياء المادية والأمور المعنوية الظاهرة والباطنة، التي يعد الإخلال بها إخلالاً بمقتضى الإنسان، قد أشار إلى ذلك الذكر الحكيم: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ) (الروم: ٣٠).
دليل الوجدان: يراد به الشعور المغروز في خلجات النفس والإحساس النابع من الفطرة السليمة بوجوب وجود الهٍ قادرٍ عادلٍ يتحكم في الكون، وهو الله سبحانه وتعالى.

وقد ذكر سعيد النورسي في رسائله هذين الدليلين وقارن بينهما في استدلاله على واجب الوجود، إذ قال: "لا يمكن أن يكون شيء موهوم مُبدئاً لحقيقة خارجية. فنقطة الاستناد والاستمداد حقيقتان ضروريتان مغروزتان في الفطرة والوجدان، حيث أن الإنسان مكرم وهو صفوة المخلوقات، فلولاهما لتردى الإنسان إلى أسفل سافلين، بينما الحكمة والنظام والكمال في الكائنات يردّ هذا الاحتمال. إن الوجدان لا ينسى الخالق مهما عطّل العقلُ نفسه وأهمل عمله، بل حتى لو أنكر نفسه فالوجدان يبصر الخالق ويراه… فالانجذاب والجذبة المغروز في الفطرة ليس إلا من جاذب حقيقي".

عبر عن دليل الفطرة المهندس كلودم هاثاواي في كتاب الله يتجلى في عصر العلم، إذ قال: "فإنَّ إيماني بالله في الوقت الحاضر يقوم على أساس خبرة شخصية أو معرفة داخلية، وهي خبرة أو معرفة تتضاءل بجانبها جميع المجالات الفكرية.. لقد وجدت أن الإيمان بالله هو الملاذ الوحيد الذي تطمئن إليه الروح".

يفهم من كلام النورسي أن العقل لا يستقل بإدراك جوهر الإيمان، وأنه لا يمكن بناء أصول الإيمان على فكرة وهمية أو فرضية عارية عن الدليل، بل لا بد من سند، وأدلة داعمة لذلك، ويرى أن الاستناد والاستمداد المغروزتان في وجدان الإنسان يجعلانه ينجذب نحو الإيمان بالخالق انجذاباً لا شعورياً، وهذا الميل الفطري والانجذاب الروحي يبرهن أن ثمة منجذب مهيمن على الكون قائم بتدبيره وتنظيمه.

ويرى الباحث أن دليلي الفطرة والوجدان من الحجج الخطابية القائمة على الظن الراجح على برهنة وجود الخالق، وأنه يمكن الاستدلال بهما لتحقيق الإيمان في مواجهة المذهب المادي المعاصر، لكن ينبغي تجديدهما وإعادة صياغتهما بما يتناسب مع الصراع الحالي؛ وذلك لأن الفطرة في زمننا ما زالت قابلة للانحراف بفعل مؤثرات خارجية. والدليل على ذلك أن عدداً غفيراً من العقلاء والأذكياء ألحدوا نتيجة تعطيل نوازع الفطرة وإشراقات الوجدان عندهم.

ويمكن برهنة وجود الفطرة والوجدان بأن ثمة أمثلة كثيرة من الواقع تدل على أن كثيراً من علومنا ومعارفنا لا دليل عليها سوى الشعور الفطري بها، إذ أنها لا تخضع للتجارب العلمية واكتشافاتها. فعلى سبيل المثال وليس الحصر أن الطفل حديث الولادة ينساق بفطرته إلى ارتضاع ثدي أمه من دون أن يعلمه أحد، وكل كائن حي في هذا الكون مسوق بإحساس الفطرة التي فطر الله الأحياء عليها إلى الاستجابة لغرائزه، ومطالب عيشه من دون أن يعرف أن الغرض من أفعاله هو المحافظة على سلالته من الانقراض، ويشعر الإنسان بالعواطف والوجدانيات، والشهوات، والآلام والملذات غير أنه لا يمكنه الاستدلال على ذلك بأكثر من أنه يشعر به.

فالشعور بالشيء دليل على وجوده، فإذا كان الظمأ دليل على وجود الماء فكذلك الافتقار إلى الخالق دليل على وجوده، ويتقوى هذا الدليل حينما تشترك البشرية جمعاء في الإحساس بمثل هذا الشعور. ومما لاريب فيه أن من هذه الإحساسات الفطرية المغروزة فينا إحساس الإنسان بوجود قوة مهيمنة على الكون ومدبرة متمثلة في واجب الوجود سبحانه وتعالى، والإنسان بفطرته ووجدانه مفتقر إلى هدايته ومعونته، مدركاً بأنه قريب منه قرباً معنوياً وإن كان ذاته غيباً عن حواسه.

إن الدراسات الحديثة كشفت عن أمور جمة حرية بالتأمل والنظر فيها، منها إثبات أن فطرة وجود الله سبحانه وتعالى صفة عامة عند البشر أجمع قديماً وحديثاً، والدليل على ذلك أنه لم يعثر على أمة لا دين لها، وقد أيد كثير من العلماء هذه الفكرة، منهم أستاذ الطبيعة الحيوية الدكتور (بول كلارنس أبرسولد) إذ عبَّر عن دليل الفطرة باتفاق الناس في الشعور المشترك وقال: "والإنسان على اختلاف أديانهم وأجناسهم وأوطانهم قد عرفوا منذ القدم وبصورة تكاد تكون عامةً مبلغ قصور الإنسان عن إدراك كنه هذا الكون المتسع، كما عجزوا عن إدراك سر الحياة وطبيعتها في هذا الوجود.. لو ذهبنا نحصي الأسباب والدوافع الداخلية التي تدعو ملايين الأذكياء من البشر إلى الإيمان بالله لوجدناها متنوعة لا يحصيها حصر ولا عد.. والحق أن التفكير المستقيم والاستدلال السليم يفرضان على عقولنا فكرة وجود الله".

المتابع لحياة الرسل والأنبياء يدرك أن إيمانهم بدأ فطرياً وجدانياً ثم توصلوا إلى معرفة اله الحق عن طريق الرسالات السماوية، فعلى سبيل المثال أن لجوء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى غار حراء والمكث فيه أياماً كان رحلة بحث عن الإله الحق بعد أن كان مؤمنًا بوجود إله بالفطرة.

وقد ذهب عدد غفير من العلماء إلى أن فكرة وجود قوى عظيمة مهيمنة على الكون ومدبرة له هي فكرة فطرية مغروزة في باطن الإنسان، وقد أوجدها فينا موجد وهو الله سبحانه. وعبر عن دليل الفطرة المهندس (كلودم هاثاواي) في كتاب الله يتجلى في عصر العلم، إذ قال: "فإنَّ إيماني بالله في الوقت الحاضر يقوم على أساس خبرة شخصية أو معرفة داخلية، وهي خبرة أو معرفة تتضاءل بجانبها جميع المجالات الفكرية.. لقد وجدت أن الإيمان بالله هو الملاذ الوحيد الذي تطمئن إليه الروح". وقد أكد ذلك الفيلسوف المؤرخ ول ديورات في كتابه قصة الحضارة:" وكثير من القبائل البدائية يستعمل كلمة (الله) لتعنى (السماء)، ولفظ الله عند (اللوبارى) و(الدنكا) معناه المطر، وكذلك كان السماء عند المنغوليين هي الإله الأعظم، وكذلك الحال في الصين، وفي الهند الفيدية أيضاً معنى كلمة الله هو (السماء الوالدة)، والله عند اليونان هو سماء مرغمة السحاب، وهو (أوهرا) عند الفرس، أي السماء الزرقاء".

ويظهر مما سبق أن الإنسان مؤمن بالفطرة والوجدان، إلا أن دلالتهما على وجود إله حجة خطابية مبنية على الظن الغالب المقبولة عند العقلاء، إذ لا بد من اتباع الأدلة العلمية، والاستنتاجات العقلية المنطقية للوصول إلى نتيجة يقينية بأن وجود الله واجب عقلاً ومنطقاً، غير أن ذلك غير كافٍ؛ لأنه لا يمكن التمييز بين الإله الحق وإله الباطل، ومعرفة منهجه وتطبيق شريعته في الحياة بالعقل فحسب، بل لابد من الأدلة النقلية (الرسالات السماوية) والتفكير فيها بالمنهج العلمي وطريقة التحليل والاستنباط للوصول إلى معرفة الإله الحق والدين الصحيح والصراط المستقيم المتمثل في اتباع أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه.

والمتابع لحياة الرسل والأنبياء يدرك أن إيمانهم بدأ فطرياً وجدانياً ثم توصلوا إلى معرفة اله الحق عن طريق الرسالات السماوية، فعلى سبيل المثال أن لجوء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى غار حراء والمكث فيه أياماً كان رحلة بحث عن الإله الحق بعد أن كان مؤمنًا بوجود إله بالفطرة ورافضاً لعبادة الأصنام، وقد عرف الله وشريعته بعد ما أوحي إليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.