شعار قسم مدونات

ثورة شعب.. لا ثورة أنبياء

blogs - حرب سوريا
لا غرو أن النخبوية كانت من الأخطاء الفادحة التي دفعنا بسببها أثماناً باهظة ريثما توصل الكل مؤخراً لما يشبه حالة التوافق أن شعار (ثورة شعب) هو الشعار الذي ينبغي أن يستظل تحته الجميع، فهو الشعار الأنقى والأسمى، غير أننا وللأسف في معرض الحديث عن نقاء وطهر هذا الشعار نغفل عن حقيقته ومعناه وأصله ومبناه، فهذا الشعب الذي نتحدث عنه هو في النهاية ليس رهطاً من الأنبياء المعصومين ولا جمعاً من الملائكة المنزهين، بل هو شعب مترامي يحوي ضمن نسيجه الاجتماعي البر والفاجر، والأمين والخائن، والصالح والطالح، فتلك هي أبرز السمات التي تميز الشعوب عادةً فهي أمشاجٌ من الخير والشر والحسن والقبيح وذلك ضمن الظروف الطبيعية لنشأة الشعوب وتطورها، فكيف إذا كانت هذا الشعوب اليوم نتاج حقبة مظلمة ودموية من القمع والاستبداد والظلم والاستعباد والتي جُرّدت فيها تلك الشعوب من كثير من معاني الخير والأخلاق ليسهُل على المستبدين استعبادهم والأخذ بخطامهم وزمامهم.
وجدتني مضطراً لأسوق هذه المقدمة التي ربما لا تروق لكثيرين وسيعدها البعض نوعاً من الافتئات أو ضرباً من الافتراء و ربما تشويهاً لفطرة الشعوب، غير أن لي من وراء تلك المقدمة الصريحة حاجة وإرباً، فمن يتابع الإعلام اليوم وخاصة الإعلام الثوري أو الإعلام الداعم للثورة كحالة من التعاطف الإنساني لا بد وأن يلفته في الآونة الأخيرة كثرة التلاوم والتركيز على أخطاء الثورة وعثرات الثائرين.

سنعلم بلا شك أن هناك حملة ممنهجة خفية ترمي إلى شيطنة الثورة والثائرين ومنح صك غفران للأسد وأحلافه وزبانيته ويتولى كبرها للأسف بعض الثائرين الصادقين من حيث لا يشعرون. هل نحن حقاً بهذه البشاعة؟! وهل ثورتنا فعلاً بهذا القبح؟!

وقد بدأت هذه الحملة قبل مدة بالحديث عن فصائل الثورة السورية وأخطائها وفساد قادتها، ثم انتقلت إلى المجالس المحلية وتابعت بعدها نحو الائتلاف والحكومة المؤقتة مروراً بفساد المؤسسات الإغاثية، لتبلغ ذروتها مؤخراً بالحديث عن نية مئات من أهالي الوعر الذين يقطنون بعض مخيمات الشمال السوري المحرر العودة إلى النظام موصلين بذلك رسالة مفادها (النظام السوري بكل وحشيته وتعذيبه واحتقاره لكل معاني الإنسانية وجرائمه التي طالت الملايين ذبحاً وقصفاً وحصاراً وتجويعاً وتهجيراً أخف وطأة من جرائم الثائرين!).

هذه الحملة تجري اليوم تحت عناوين براقة: كالنقد البناء، أو تسليط الضوء على الظواهر السلبية، أو تطهير الثورة، إلى ما هنالك من تلكم الذرائع، بعض النُّقاد بلا شك صادق في نقده وتحركه الحرقة والغيرة غير أن التوقيت والسير في فلك هذه الحملة ربما ليس مناسباً سيما في مثل هذه الظروف الحساسة والمفصلية من عمر الثورة السورية، فمحاولات إجهاضها سابقاً كانت مستترة خجولة، وأما اليوم فأذرع القتلة المتربصين تمتد إليها جهاراً نهاراً لتنتزع جنين الحرية من أحشائها فتخنقه ثم تواريه التراب.

لا يمكن أبداً لهذه الحملة أن تكون بريئة! ومحال لهذا الزخم الذي ينظر لأخطاء الثائرين بالمجهر (مضخمة مئات المرات) ولجرائم الأسد وميليشياته من فوق الغمام (لتبدو بالغة الصغر والضآلة) أن يكون بلا أيد تحركه أو جهات ترعاه، ولو أضفنا لذلك كله جملة التوافقات الدولية التي بدأ بعضها يطفو للعلن مؤخراً وتعاقب الحديث عن حل سياسي قريب، وتراجع دول كثيرة عن مطالبتها برحيل الأسد، سنعلم بلا شك أن هناك حملة ممنهجة خفية ترمي إلى شيطنة الثورة والثائرين ومنح صك غفران للأسد وأحلافه وزبانيته ويتولى كبرها للأسف بعض الثائرين الصادقين من حيث لا يشعرون. هل نحن حقاً بهذه البشاعة؟! وهل ثورتنا فعلاً بهذا القبح؟!

وهنا لا بد من التأكيد أنني لا أخلع على الثوار ثوب القداسة وأعطاف العصمة، ولا أصورهم ملائكة مقدسين ولا أنبياء معصومين، ولست أنكر فداحة بعض الأخطاء التي تبلغ مبلغ الجرائم التاريخية التي ربما يرسف تحت نيرها أجيال قادمة. غير أننا اتفقنا في بداية هذا المقال أن العنوان الجامع لهذه الثورة هو (ثورة شعب) وهذا الشعب بتنوعه، له ما له، وعليه ما عليه.

فليس لمريض أن يبرأ من داء مزمن عضال أقعده لقرن من الزمن في غضون أشهر معدودة أو حتى في بضع سنين، ومن كان حريصاً على الثورة غيوراً على الثائرين فعليه أن يحسن اختيار التوقيت ويحذر أن يكون أداة لما يجهل، فلا بأس بانتقاد الثورة والتحذير من أخطاء الثائرين عندما تكون الثورة في حالة صعود ومد، لتهذيبها وكبح جموحها، وأما حين تكون مثخنة بالجراح وتشهد حالة جذر وتقهقر (كحالها اليوم)، فعبارات المواساة وكلمات التشجيع والنظر إلى النصف المليء من الكأس هو ما تحتاجه لمنع اغتيالها والنهوض بها مجدداً لتتابع مسيرتها الطويلة والمخضبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.