شعار قسم مدونات

مذكرات مشجعة كرة.. فوتبول بكعب عالي

blogs مشجعة كرة قدم
أعترف أني في كلّ مرة أرى فيها تعليقاً ضد اجتماع المرأة وكرة القدم في جملة واحدة، أصاب بخيبة أمل كبيرة، لأني لطالما اعتقدت أن الأفكار السلبية تأخذ طريقها نحو الاندثار كلما زاد حجم تجاهلها، بعد سنواتٍ عديدة أجد أن تلك الأفكار أصبحت أكثر حدّة من ذي قبل، حتى أصبحت كلّ فتاة تتابع كرة القدم تنعت بصفات غريبة جداً، في ظل انتشار مواقع التواصل وفرص الكلام والتعليق في كلّ مكان.

أجد الأمر غريباً جداً، لأني ومنذ طفولتي عشت هذا الأمر بشكل طبيعي جداً، حتى في محيطي المدرسي حيث كانت اللعبة الأكثر انتشاراً في المدرسة، في أيامنا تلك لم تكن هناك هذه الحساسية المفرطة اتجاه ما هو ذكوري وما هو أنثوي، كنا فتياناً وفتيات نتشارك لعب الكرة طوال فترات الاستراحة حصص الرياضة، لم نكن نطبق جميع قوانينها ولم يكن هناك في الغالب حكم يحكم بيننا، لكننا كنا نستمتع لأننا كنا نفعل شيئاً نحبه.

في عائلتي ربما كنت الفتاة الوحيدة التي لم تكن تغيب عن مشاهدة أي مباراة، ولم يكن الأمر مستغرباً أو مستهجناً، على العكس، كنت أنا المصدر الرئيسي لكثير من مواعيد المباريات التي تشد اهتمام الجميع.

كنتُ أعرف كلّ شيء عن البطولة، كان لدي دفتر يحمل أسماء المنتخبات المشاركة، أسماء اللاعبين الأساسيين والاحتياطيين، الطاقم التدريبي لكل منتخب، كنت أحفظ حتى أسماء الحكام، وأسماء الهدافين

أتذكر المناسبات الكروية الكبيرة التي شاهدتها وأنا طفلة، كفوز الجزائر بكأس أفريقيا في 90، كنت صغيرة لكنني أتذكر بعض الأشياء العالقة في ذهني كذلك الفرح الهستيري الذي لا يتكرر دائماً، لكني في كأس العالم 94، أتذكر كل شيء تقريباً، أذكر المكان الذي كنا نضع فيه التلفاز لنتابع المباريات، في تلك الأيام لم نكن نعرف لغة التشفير، فقد كنا نشاهد كل المباريات تقريباً. أذكر باجيو وركلة الترجيح التي أضاعها، أذكر خيبة الامل التي أصابتنا جميعاً ونحن نرى الكرة تصعد فوق المرمى لينتهي معها حلم كلّ ايطاليا وحلمي الطفولي معهم.

كنتُ أعرف كلّ شيء عن البطولة، كان لدي دفتر يحمل أسماء المنتخبات المشاركة، أسماء اللاعبين الأساسيين والاحتياطيين، الطاقم التدريبي لكل منتخب، كنت أحفظ حتى أسماء الحكام، وأسماء الهدافين، وكنت أسجل في دفتري توقيت الأهداف، والبطاقات الصفراء والحمراء، كنتُ أحفظ كل شيء، أراجع ما حفظته حتى لا أنسى، كنت كمن يستعد لامتحان ما، فأنا يجب أن أكون على اطلاع بكلّ شيء. أذكر هوسي بإيطاليا التي استمر عشقي لها إلى الآن، وكلما حاولت أن أجيب أحدا عن سر هذا الهوس، أعجز عن إيجاد جواب ما، إنه شيء ما لا يفسر، ومهما حاولت شرحه للآخرين سيبدون استغرابهم في كلّ مرة.

قصتي مع عشق الكرة كان حالة متفردة، شيئاً ما يعاش مرة واحدة، لكن إحساسه الأول يرافقك دائماً، في كل مناسبة تشاهد فيه فريقك المفضل يلعب، تسترجع كلّ طقوس حبك الأول.

أن تكبر على حبّ شيء ما هو اكتمال به وتماهٍ معه إلى أبعد الحدود، ومن يعرف حقاً سحر كرة القدم، التي تستطيع أن تقلب العالم كله رأساً على عقب بمجرد مباراة واحدة، وحده ذلك الشخص يستطيع أن يفهم ما معنى أن تعشق الكرة

قد يمر من هنا قارئ ما، ويستغرب كل هذا، قد يسخر وربما يحاول تحوير الموضوع باتجاه المطبخ، قد يضحك ملئ فمه، وقد يحاول جعل الأمر تحدياً، من خلال طرح موضوع قوانين اللعبة وأسماء اللاعبين، ومحاولة الخلط بين المنتخبات الوطنية والنوادي، كتلك المغالطات التي تقع فيها بعض الفتيات حين يحاولن مجاراة الذكور في موضوع الكرة، لكني لن أقع في الفخ، لأني ببساطة أثق في معلوماتي وأثق أكثر في كون الأمر أبسط من أن يتحول إلى نزال أو جدال مع أحد.

الأمر بالنسبة لي ليس تحدياً لأحد، ولا إظهاراً لشيء ما أمام الآخرين، أن تكبر على حبّ شيء ما هو اكتمال به وتماهٍ معه إلى أبعد الحدود، ومن يعرف حقاً سحر كرة القدم، التي تستطيع أن تقلب العالم كله رأساً على عقب بمجرد مباراة واحدة، وحده ذلك الشخص يستطيع أن يفهم ما معنى أن تعشق الكرة، وما معنى أن تعيش تلك المشاعر المتداخلة في لحظات مشاهدتك لمباراة ما، دون التدقيق في الجنس أو العرق أو العمر أو أي فارق من هذه الفوارق.

بقي أن أذكر لاعبي المفضل، هذا الذي كنت ولا زلت أؤمن أنه من أفضل من لعب كرة القدم، ايطالي بالطبع، دالبيرو الذي تعلمت بمتابعته كيف يكون الوفاء، عايشت معه حب اليوفي والأزوري، ولازال في اعتقادي الخاص لاعباً من زمنٍ آخر.

تلك المرحلة لم تكن تشبه في شيء ما يحدث حالياً، الأمر باعتراف الجميع أصبح أشبه بالحروب الافتراضية، بين مختلف مشجعي الفرق والنوادي، أصبح جدالاُ عقيماً وصارت الأحاديث كلها عن لاعبين اثنين، فيما العالم فيه من النجوم ما يجعلك لا تملّ أبداً وأنت تشاهدهم، بات في الكوكب حزبين، حزب ميسي وحزب رونالدو، وأصبحت الحروب تقام افتراضيا بأسمائهما.

أما عن رأيي الخاص فميسي حالة استثنائية في الكرة، كتلك الأشياء التي تأتي مرة واحدة في العمر، يبقى أن أذكر دائما بأن المسألة هنا كالفن والقراءة والأدب يتعلق فقط بالأذواق، فلا يمكنك أن تجعل شخصاً ما يحب شيئاً لا يروقه، والعكس صحيح طبعاً.

عدا ذلك شجعت بعض الفرق التي كانت تثير إعجابي، أحببت البرسا جداً في سنواتها التي سحرت العالم بأسره، أبقيت وفائي الكامل لمنتخب بلادي الجزائر، الذي حتى في تلك السنوات التي كان يغيب فيها عن كؤوس أفريقيا، حين كان التنقل إلى ملاعب القارة الافريقية مغامرة كبيرة جداً وتحدياً عظيماً، حين كانت الهزائم تتوالى أتذكر أني كنت مع شقيقي الأصغر نتابعهم ونتقصى أخبارهم عن طريق الإذاعة، فنقل تلك المباريات كان من المستحيلات السبع، استمر الأمر معنا هكذا، لم نكن نضجر أبداً، كان عشق الكرة والوفاء للمنتخب الأم أمراً أكبر بكثير من الاهتمام بالنتائج.

بعد كل هذه السنوات التي مرت سريعاً، أنا لا زلت تلك الطفلة التي تترك اللعب لتشاهد مباراة في كرة القدم، لازلت تلك الفتاة التي تترك مجالس النساء لتشارك رجال العائلة مشاهدة مباراة ما، لازلت تلك الطفلة الفتاة التي ترتدي قميص لاعبها المفضل مع كعبٍ عالٍ

أبقينا طبعاً وفائنا لإيطاليا لأنها كانت العشق الذي يجعلنا نحلق في سماء الكوكب، كان هوساً حقيقياً جعلني في نهائي كأس أوروبا2002 أقيم الحداد في المنزل، وأضع شارة سوداء على ذراعي، كتلك التي كان يضعها اللاعبون حداداً على أحد ما، ربما في تلك اللحظات كنت أعتقد أن أي مباراة بخاصة تلك التي تخسرها إيطاليا هي نهاية العالم، كنت أجد صعوبة في الخروج من جو الحزن ذاك.

ذلك التأثير السحري الذي لا تفسير له، هو نفسه ما جعلني أحتفل حتى الصباح تلك الليلة من عام 2006 حين حمل دالبيرو أخيرا كأس العالم، كنت طوال الوقت أخشى أن ينتهي عداد عمري، دون أن أشهد تلك اللحظة، في النهاية شهدتها وعشت لحظاتها كاملة صوتاً وصورة متابعة كلّ شيء في القنوات الإيطالية، لم أكن أفهم سوى كلمات بسيطة لقنها لنا أستاذ الفرنسية في الثانوية، لكني مع ذلك كنت أشعر أني افهم كلّ شيء.

تحضرني الآن كل تلك الذكريات عن الكرة، عن ايطاليا، وعن منتخبنا الوطني، عن الأشياء الجميلة التي جعلنا نعيشها طوال سنوات، عن المشاعر التي تشاركناها مع كل من يحب هذه اللعبة الساحرة.

بعد كل هذه السنوات التي مرت سريعاً، أنا لا زلت تلك الطفلة التي تترك اللعب لتشاهد مباراة في كرة القدم، لازلت تلك الفتاة التي تترك مجالس النساء لتشارك رجال العائلة مشاهدة مباراة ما، لازلت تلك الطفلة الفتاة التي ترتدي قميص لاعبها المفضل مع كعبٍ عالٍ، لازلت أحبّ الكرة تماماً كما أحببتها أول مرّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.