شعار قسم مدونات

نقد خطاب الإسلاميين (2)

blogs - خطاب ديني
هذه تكملة لأهم معالم القصور في خطاب الإسلاميين؛ التي تبدو للباحث في داخل بيتنا الإسلامي، كما تبدو للغادي والرائح من خارجه، والتي جاء الجزء الأول منها في تدوينة سابقة:

قال تبارك وتعالى (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون) الأعراف 203.
12- غياب التطمينات اللازمة في الخطاب للمجتمع الدولي ولجيراننا، وفقد المرونة في التعامل مع شركاء الوطن، والوقوع في فخ الأحكام المجملة والمجتزئة والفتاوى المستوردة، وعدم التركيز على التقاطعات المهمة التي يمكن أن نلتقي عليها وننطلق منها مع من حولنا..

13- غلبة أنفاس التفنن في صناعة الخصوم، وعدم وضوح خط الرغبة في البحث عن أصدقاء وحلفاء وشركاء، وقد تم تجاوز وتجاهل أهمية الاشتباك الإيجابي مع المخالف والانطلاق منه إلى مد جسور الثقة والتخفف من الأوهام والظنون والخلافات الهامشية وسؤ الفهم الناتج عن غياب الموائد المستديرة التي تعالج على حوافها المسائل والملفات والقضايا الجامعة المشتركة.

14- الإغراق في شكليات لون الراية ودلالتها، وبذل الجهد في استدعاء الصورة النمطية في شكل الملابس والهدي الظاهر، بما يعطيها أوزاناً توحي بأنها قضايا مفصلية ؛ بينما لا تعدو هي في ميزان الحق؛ كونها مجرد شعار لا يرتقي إلى مرتبة الشريعة، فقد كانت رايات السيد الرسول صلوات الله وسلامه عليه بيضاء وسوداء وحمراء وصفراء وخضراء، ولم يكن في واقع الحال مكتوباً عليها كلمة التوحيد، أو مطبوعاً عليها ختم النبوة الشريف.. فإذا علمنا أنها قد أمست مبرراً ومقدمة للتصنيف العدائي ضد أهل التوحيد ودعاة الإيمان بحجج عدائية واهية مفتعلة؛ فلا أقل في حق الراشدين من التخفف منها والتركيز في معركتنا على الأصول الشرعية المعتبرة؛ التي تجسد قضايا الصراع بين الحق والباطل بعيداً عن أي حجج نقدمها لأعداء شريعتنا وديننا وشعوبنا وحريتنا.

من المهم جداً، أن نفرق بين الدين المنزل، وبين التدين الذي هو فهم الناس واجتهاداتهم في تنزيل النصوص في حكمهم وقضائهم، وفي عباداتهم وأخلاقياتهم ومعاشهم. فالدين هو النصوص محكمها ومتشابهها.

15- ثمة غياب كامل عن فقه مراعاة الرأي العام المحلي والعالمي ،، وقد تترسنا تحت مفاهيم تخلط بين ما لا يجوز التفاوض فيه والتحاور أو التنازل عليه وأن الله أحق أن نخشاه، وبين ما يمكن أن يكون محلاً للمدارسة والتفاهم والإسقاط والهدر .. إن في عدم جدوى إعادة بناء الكعبة المشرفة على أساسات إبراهيم عليه السلام مراعاةً لحداثة قريش بجاهليتها وبالإسلام، وفي التوقف عن قتل المنافقين حتى لا يقول الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؛ إشارة وافية للتفريق بين المصالح والمآلات المعتبرة والأخرى المهدرة، وكل ما يندرج تحت الضابط الفقهي من قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) البقرة 150.

16- وأخيراً لا آخراً، فها نحن نرى توسعاً وتوحشاً في خطاب التخويف والولوغ في الدماء، مع غياب شبه كامل لأصول وضوابط المنهج المكتوب، وغموض يلف المشهد ويختزل الرؤية، وبين هذا وذاك ثغرات تومئ بوجود اختراقات مربكة، مما عمق الإحساس والمخاوف بأنه ثمة غلو في إصدار الأحكام وتطرف في التأصيل.

هذه مجمل مكونات المشهد المتعثر للخطاب الإسلامي، أرجو أن أكون قد وفقت في تجميع مفرداتها وسرد المآخذ عليها، وأن تتسع الصدور لتلمس أوجه الصواب في كلامي من عدمه.. قال عزوجل (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) فاطر 32.

إنني على يقين أنه لن يضيع وطن فيه مؤمنون يفرقون بين المنهج الرباني وبين اختيارات وترجيحات واجتهادات المؤمنين بالمنهج، وفق قاعدة (ربانية القيم وبشرية الممارسة) التي ستمكننا من استيعاب مغزى وأغراض الخطاب المقاصدي، وتمنحنا القدرة على فك الاشتباك الحاصل والتفريق بين الدين المنزل والتدين المرجوح، وبين الثوابت والمتغيرات، وما كان أصلياً أصيلاً وما هو دخيل.. هذه القاعدة ستمنحنا القدرة على تفكيك الكثير من تعقيدات الخطاب الإسلامي التقليدي والمعاصر.

إننا اليوم بحاجة إلى ثلاثة مطالب مهمة لنعيد تشكيل ملامح الخطاب الإسلامي الواعد:
1- أن نفرق بين ما هو دين منزل، وهو ما يشكل العزائم والقطعيات والمحكمات في خطاب الوحي الرباني، وبين ما هو فتوى واجتهاد وتقدير وقراءة وترجيح بشري محض، بخلاصة تتمحور في التفريق بين الثوابت والمتغيرات..

2- أن نستوعب أنه ثمة شركاء لنا في سفينة الوطن ؛ لهم قراءة وخلفية وحقوق وتطلعات وأولويات يجب أن توضع في الاعتبار..

3- أننا معنيون اليوم بالدعوة إلى الإسلام لا إلى المسلمين، فواقع المسلمين صورة غير دقيقة عن هذا الدين، وفي كثير من الأحوال ثمة تحريفات تمس الأصول المعتبرة في العقيدة والتشريع، ودخن يغشى الفهم والسلوك والممارسة، وتناقض جلي مع بدهيات الحق المنزل والمقاصد المعتبرة في رسالة الربانية الخاتمة.

الجهد البشري يجب أن يخضع للمراجعة والنقد والتصحيح. وأننا بهذا النمط في التفكير ستتكون لدينا القدرة على قراءة التاريخ والتجارب بعقلية إنسانية ناقدة، وستجعلنا في موقع الشهود القادرين على تمييز مكونات المشهد الإسلامي الأصيلة.

إن يقيني يزداد يوماً بعد يوم، بأن الشريعة الإلهية، ليست مسؤولة عن أية انتهاكات يتعرض لها الإنسان – رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً مستضعفاً – جراء مفاهيم واختيارات بشرية قاصرة جامدة؛ هي نتاج ثقافة جيل أثقلته مواريث لا تعبر عن مقاصد التكريم الذي نزلت بها الأحكام، وأننا اليوم ضحية لتلقي اجتهادات عفا عنها الزمن، وسلوكيات مستوردة بائسة، أو حتى محلية رديئة الصنع.

وأنه من المهم جداً، أن نفرق بين الدين المنزل، وبين التدين الذي هو فهم الناس واجتهاداتهم في تنزيل النصوص في حكمهم وقضائهم، وفي عباداتهم وأخلاقياتهم ومعاشهم. فالدين هو النصوص "محكمها ومتشابهها" والأسوة الحسنة في السيد الرسول صلوات الله وسلامه عليه.. والتدين هو مجمل الممارسة والاجتهادات والترجيحات التي تتأثر باعتبارات الزمان والمكان والحال.

وأن هذا الجهد البشري، يجب أن يخضع للمراجعة والنقد والتصحيح. وأننا بهذا النمط في التفكير ستتكون لدينا القدرة على قراءة التاريخ والتجارب بعين وعقلية إنسانية ناقدة، وستجعلنا في موقع الشهود القادرين على تمييز مكونات المشهد الإسلامي الأصيلة، وفرزها عن الأشكال والمظاهر الدخيلة الخادعة الممجوجة.. وعلى هذا يتأسس التفريق بين موازنات التوافق الذي نستهدف الوصول إليه، وبين إدارة الصراع على قواعد الهوية والأصول ومحكمات الشريعة وقواطعها في صراع الحق والباطل الذي لا محيص عنه.

إنها دعوة إلى ترقية الخطاب، وتصحيح المسار، ومراجعة الأداء.. وأن نتقفى خطى الراشدين.. قال تبارك وتعالى (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) الأعراف 196.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.