شعار قسم مدونات

عن موائد الغائبين.. حدّث واحذر ألا تبكي

BLOGS- السجن
ألم يعثروا منذ أكثر من عامين ونصف على أي من وسائل هذا العالم المجنون، حتى لو على هاتف معطوب مثلا يقوى على ابتعاث رسالة مقتضبة ليست عشوائية لأحد من أفراد عوائلهم الباكية، فقط تتضمن بأنهم على قيد الحياة وأنهم على أمل من فرج قريب، أو لعل أحداً من بين الخاطفين يرزق بذرة من رحمة تدفعه لأن يدس لهم فتات من خبز طازج أو حتى شيئا من ماء عذب.

رمضانين وأربعة أعياد، وأحياء قد ووري جسدهم الثرى، وذكريات معادة وأحداث متزاحمة، كلها قد مرت خلال عامين ونصف من خريف مقيم تساقطت فيه الأوراق، ولا زالت ذات التساؤلات تطرق عقول عوائل أربعة شبان مختطفين في أرض مصر.

"أحياء أم أموات، أصحاء أم هلكت أفئدتهم، ما بال عقولهم هل لا زلات تذكر كل جميل، هل تشرق عليهم شمس الصائمين أم أن ظلام الزنازين يخيم على أعينهم ليل نهار، كيف حالهم، ما أخبارهم، إلى أين وصلت أوزانهم، الأرض فراشهم أم أن رحمة العروبة وفرّت لهم شيئا يقي عظماهم يبس الأرض، يا الله لو نلمس حر أنفاسهم فنهدأ، أو حتى يصلنا صدى صوتهم فنطمئن، لو نخبرهم بأنّا صابرون على فقدهم حتى يكملوا أنفاسهم باطمئنان إلى يرتوي ظمأ انتظارنا بلقاء!".

لا زالت حناجر ذوي الشبان المختطفين، عبدالله أبو الجبين، حسين الزبدة، ياسر زنون ،عبد الدايم أبو لبدة، تدوي على الحدود وعلى وسائل الإعلام، عل صوتهم يجاب.

هذا شقيق أحد المختطفين الأربعة، شقيق الدم وتوأم الروح، عبد الرحمن أبو الجبين، الذي لا زال يشكو ألم الفقد وحسرة الفراق وفراغ البيت من صوته ومن صدى ضحكات أخيه عبدالله، (ما زلتُ أذكر كل تفاصيل اتصالاته الأخيرة، فبعد آخر اتصال جمعني به، رأيته في منامي يقول لي، "يا عبد الرحمن أنا خائف من دخول مصر، لا أريد أن أدخلها إلا وأنتَ معي، تعال يا أخي لنكن سويا"، لا أدري لماذا بعد هذا المنام اقشعر بدني ونبض قلبي خارج قفصه، لأصحو بعده وأكتشف أن توأم روحي قد اختطف من أرض مصر)!.

"يا ابن أمي الراحلة، ألا يعرفون بأن بيتنا أصبح ككوخ مهجور مخيف في غيابك، وأني أذوي كل يوم حتى أصبحت كعود جاف توشك الرياح أن تذروه في كل ناحية!!، مقعدك يا حبيبنا ما زال فارغا على طاولة الطعام الذي لم نتذوق منه في أول أيام رمضان إلا ما يقيم صلبنا فنتقوّ على معركتنا الصامتة مع القهر والصبر، ماذا بوسعي أن أفعل أمام كل هذا القهر، إلا أن أنظر بحسرة و غل إلى الباب الذي خرجت منه إلى المجهول، وتركتني خلفه في مجهول لا يقل قساوة، لم يتوقف الزمن عند اختفائك يا شقيقي ، لكنني حقا توقفت مُذ ذاك عنده".

فأنا الذي كنتُ لا أحبُ تناول طعامي إلا مع أخي، كانتْ عائلتي تُعدُ مائدتين، واحدة لباقي أخوتي والثانية لي ولأخي ومعنا جدتي، كان رمضان، جميلاً بأخي، يا الله ما أجمله، أما اليوم يا أصحاب الضمائر، فقد ماتتْ جدتي، واختطفَ أخي، وأصبحتْ مائدة الإفطار في عيني لا تُثيرُ إلا أدمعي المحترقة، سامحني يا حبيبي يا أخويا لأني تركتك وحيداً!.

ما إن تحمر وجنات الشمس إيذاناً بالغياب، حتى يهرول الصائمون نحو بيوتهم، وتبدأ الطرقات بإفراغ نفسها من المشاة حتى يخيّل إليك بأنه لا يسكن في هذه الأحياء بشر، لحظتها يسكن كل شيء عدا المآذن، تنطلق دفعة واحدة معلنة عن موعد الإفطار، فيلتف الصائمون حول الموائد وتنغمس الرؤوس داخل الأواني الممتلئة بالأطعمة، حتى أن بعضهم من لهفة الجوع ينسى أن يردد: "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله".

تُغلق البيوت على أصحابها، ويدفن القهر داخل الصدور، وتغدوا الأرواح متعبة منهكة، تصمت الألسنة إلا عن الدعوات الباطنة، وتنتظر تلك المائدة الصماء بأن يكسر أحداً عنها شبح الصمت المخيف ولو بكلمة واحدة، يتمدد الوقت أكثر وتتصوب الأنظار نحو فراغ الغائبين، فراغ يقطع الرغبة بكسر الصيام حتى برشفة ماء على الأقل، لتسبق الدموع المنكبة نحو أفواه الصائمين فتجبرهم على ارتشاف أولى أرزاق صيامهم.

"يا ابن أمي الراحلة، ألا يعرفون بأن بيتنا أصبح ككوخ مهجور مخيف في غيابك، وأنني أذوي كل يوم حتى أصبحت كعود جاف توشك الرياح أن تذروه في كل ناحية!

ولو أن الجدران وجمادات البيوت تنطق، لكانت أولى من صرخت وطالبت بعودة المفقودين، وإرجاع المختطفين الأربعة إلى عوائلهم، إلا أنها للأسف لا تنطق، لتبقى شهادتها مؤجلة إلى يوم يبعث فيها الخلق ليوم الحساب.

فكم من جموع الصائمين أوقفوا عجلة الزمن لدقائق معدودة ورفعوا أكفهم إلى السماء، وتذكروا الفاقدين والمفقودين بدعوة صادقة خالصة مخصصة، فكم من الموائد تحولت إلى بواكي تشكي إلى الله فقد عزيز غيّبه القدر بظلم ذوي القربى!.

عامين ونصف على غياب الأخبار عن أربعة شبان غزيين اختطفتهم أجهزة المخابرات المصرية، عقب تجاوزهم للحدود الفلسطينية ودخولهم أرض سيناء، في واحدة من فرص فتح معبر رفح للمحتاجين للسفر من أصحاب المنح الدراسية والتحويلات العلاجية وفرص العمل بالخارج لأهالي قطاع غزة.

ولا زالت حناجر ذوي الشبان المختطفين، عبدالله أبو الجبين، حسين الزبدة، ياسر زنون ،عبد الدايم أبو لبدة، تدوي على الحدود وعلى وسائل الإعلام، وفي صفحات مواقع التواصل الاجتماعي عل صوتهم يجاب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.