شعار قسم مدونات

نخبنا بين التبعيّة والإبداع

blogs - chess

قال "هنري مارتن" في كتابه عن تاريخ فرنسا الشعبي متحدّثا عن موقعة بواتييه: "لقد تقرّر مصيرُ العالم في تلك المعركة، ولو غُلب الفرنج فيها لكانت الأرض قبضةَ محمّد.. ولخسرت أوروبا والدنيا مستقبلهما". ويردّ عليه "غوستاف لوبون" في كتابه "حضارة العرب" (ص317): "لنفرض جدلا أنّ النّصارى عجزوا عن دحر العرب، وأنّ العرب وجدوا جوّ شمال فرنسا غير بارد ولا ماطر، فطابت لهم الإقامة الدّائمة به، فماذا كان سيصيب أوروبّا؟ كان سيصيب أوروبّا النّصرانية المتبربرة مثلُ ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النّبيّ العربيّ، وكان لا يحدث في أوروبا ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية وملحمة سان برتلمي ومظالم محاكم التفتيش، وكلّ ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع التي ضرّجت أوروبّا بالدّماء عدّة قرون".

ومن أغرب ما أفرزته مجتمعات ما بعد الاستعمار، أنّك لو طرحت سؤالا واضحا على المعدودين نخبا في مجتمعاتنا: أين أنت من هذين الموقفين؟ فإنّ قدرا لا بأس به من الإجابات سيكون -ومن غير أيّ تردّد أو تلكأ- مع السّيّد مارتن لأنّه يشاركهم العداوة للثقافة التي يكرهون!

تلك الظاهرة التي تجعل الحليم حيران من غرابتها!؟ ما كان يُمكن للدّراسات الغربية المتعلّقة بالتفكير الديني أن تتخلّص من "مؤثّرات" العلاقة السلبية التي حكمت الأوروبيين في علاقتهم بدينهم على مدى ذلك الزمن الطويل من التطرف والتعسّف الكنسي، وقد جاءت هذه الدّراسات في أغلبها تعبيرا عن المرارة العميقة التي يستشعرها الوعي والوجدان الغربيّان تجاه الكنيسة التي احتكرت الحقيقة في كلّ المجالات، ومارست التعذيب والتقتيل لِمُجرّد المخالفة في "الفكرة" في حروب أبادت الملايين من الأوروبيين بحسب ما تحكي نصوصُ الغربيين أنفسهم أمثال فولتير (1772-1694م) الذي يقول: إنّ ضحايا الحروب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك بلغت 10 ملايين، أي أنّ 40 في المائة من شعوب وسط أوروبا أُبيدوا في هذه الحروب الدينية التي امتدت نحو قرنين من الزمان.

إذا وضعتُ هذا العقلَ الحداثويّ العربي على محكّ المقارنة مع العقول التي أسست النهضة العربية الأولى، أجدني مدفوعًا إلى التسليم بأنّ الأُولَى كانت أنضجَ بكثير، وبالتالي كانت أعمقَ أثرا، وأغنى إنتاجا

ومن المفارقات الفكرية والمنهجيّة الجديرة بأن تُدْرس في "علم نفس الحضارات" أنّك ترى كثيرًا من المعدودين نُخبًا مثقّفةً في المجتمعات العربية والإسلامية، يُمارسون النّقد لثقافتهم مستبطنين تلك المرارة التي ترسّبت إليهم من أساتذة غربيين تلقفوا عنهم "المناهج"، مستسلمين دون "نقد" يُذكَر لِما أخذوه من المواقف والأفكار، بل وحتّى لِما استَوْردوه من "البواعث" التي كانت وراء توليد تلك المواقف والأفكار، و"للنتائج" التي بلغها الغربيون بتطبيقهم تلك المناهج على واقعهم وتحدّياتهم.

إنّي وأنا أضع هذا "العقلَ" المُمَثِّلَ للمعدودين نُخبًا في مجتمعاتنا على مِحكّ المنهج العلميّ، أتساءل عن مدى "عقلانية" مثل هذا العقل الذي يتلقّف "منجزات" الآخر جاهزةً، ولا يُمارس عليها "النّقد" الضروري الذي يُسلَّط عادةً على كلّ أدوات البحث قبل أن يَعتمدها في بَحثه، بل على العكس من ذلك تماما، فإنّنا رأيناه مُسارعا إلى أخذها على علاّتها، انبهارا بكلّ ما يُفرزه الآخر، غيرَ مُميّز بين معطياتٍ وحقائقَ علميّةٍ محايِدة، وبين محاولاتٍ إنسانية مُغرِقة في الذاتيّة. وكأنّ لسانَ حالِ هذا العقل يقول: هناك فرق بين نموذج ونموذج، وبين تسليم وتسليم.

ومهْما تبرّأ نظريا من ذلك القول، فإنّ ممارساته العملية المليئة بالإسقاط المستكره في كلّ ما يكتب هي أكثرُ وضوحا من أن تُردَّ أوْ تؤوَّل. ومن رأى غير ما رأيتُ، فليُرني كمْ مرّة قرأ لأحد الذين ذكرتُ أمثال أركون أو الشرفي أو غيرهما نقدا علميّا للأدوات المنهجية التي اعتمدها في تَحليله العقل الإسلامي مثل منهج تاريخ الأفكار أو المنهج البنيوي أو الحفري أو غيرها من المناهج التي استحدثها العقل الغربي الحديث.

أمّا إذا وضعتُ هذا العقلَ الحداثويّ العربي على محكّ المقارنة مع العقول التي أسست النهضة العربية الأولى، ورحتُ أُقارن بين حركتي التّرجمة التي مارسها أسلافُنا في القرون الأولى من الحضارة الإسلامية، وتلك التي يُمارسها بعضُ المعدودين "نُخبًا" في هذا العصر، أجدني مدفوعًا إلى التسليم بأنّ الأُولَى كانت أنضجَ بكثير، وبالتالي كانت أعمقَ أثرا، وأغنى إنتاجا:

– وذلك لأنّ المثقّفين في التّجربة الأُولى مارسوا على الوافد عملياتِ نقد دقيقة ساعدت على اجتراح الجديد، بينما وقف المعاصرون عند حدِّ تكرار الوافد بمنهج إسقاطي واضح، وبلغة ركيكة لا يَكادُ يُسيغها ابنُ هذه الحضارة إلا بِشقّ الأنفس لأنهّ لا يَجد نفسَه فيها. 

الأوائل قد تعاملوا مع الوافد بنِدّيّة وفعالية، فهضموه وتجاوزوه، بينما ترى مثقّفينا اليوم يتخبّطون في شراك ما ينقلون، ولا يكادون يَخرجون منه

– والمترجمون الأوائل قد ميّزوا بين ما هو سُننٌ وقوانينُ طبيعيةٌ محايِدة، وبين ما هو تفكير إنساني يتمحور حول "الذّات الغربيّة" ويستمدّ مشروعيته ومعناه من تجربتها الخاصّة. بينما أُغرم معاصرُونا بأخذ "الكلّ"، فكانوا روّادَ "التنميط" في الفكر العربي الحديث رغم زعمهم نظريّا أنهم أعداءُ كلّ أشكال التنميط.

– والأوائل قد تعاملوا مع الوافد بنِدّيّة وفعالية، فهضموه وتجاوزوه، بينما ترى مثقّفينا اليوم يتخبّطون في شراك ما ينقلون، ولا يكادون يَخرجون منه، حتّى أنّك صِرتَ ترى الواحدَ منهم يتحدّث بألف لُغة (لغة فكر لا لغة لسان) على قدر الذين نقل عنهم، ولكنّك لا تكادُ ترى له لغةً مميّزة بناها لذاته في إطار خصوصيتِه الثقافية، وطبيعةِ التحديات الفكرية المطروحة عليه داخل مُجتمعه.

وانطلاقا من هذه الفروق النوعية بين تجربتنا الأولى في نقل المعرفة وتوطينها، وهذه التجربة الحداثوية الجديدة التي وُلدت "مريضة"، فإنّ ما يزعمونه "مشاريعَ" فكريّة عربيّة حديثة ومعاصرة، ليس فيه من المشاريع الفكرية الحقيقية إلا الاسم، وإلا فإنّها من حيثُ رؤيتُها، ومنهجُها، ومشكلاتُها، وحتّى نتائجُها، ليست في الأخير سوى نُسَخا مشوّهَةً من إبداع العقل الغربي، أُسقطت على الواقع العربيّ والإسلامي فشوّهَتْه وكبَّلت حركةَ الفعل الحضاري فيه.

أن المجتمعات في حالة العافية تُفرز نخبا هي "زبدتها" و"رحيقها"، تتمثّل معنى الرّيادة الحضارية سلوكا إبداعيًّا يتّسم بالأصالة والتّميّز، وتنفر من التبعية والاستهلاك السلبي لمنتجات الآخر

وإنّ أُولَى الخطوات بالنسبة إلى الذين يُريدون إعادةَ الفعالية إلى هذا المجتمع العربي الذي يَرزَح منذ قَرْن من الزمن تحت وطأة المقولات المستورَدة البالغة التحنيط، أن يكسروا هذا الطَّوقَ الفكريّ الآسِر، وأن يبحثوا عن الحلول "الحديثة" من داخل واقعهم، وبمناهجهم الفعّالة، ولا يضرّ حينَها أن يستفيدوا استفادةَ "المفكّر الإيجابيّ" من هذا الإنتاج الإنسانيّ أو ذاك، ما داموا يَنظُرون إليه بعين النّقد والتّنسيب.

وأمّا الخطوة الثانية، فليمشوها على طريق الإبداع والتميّز، واضعين نصب أعينهم أن المجتمعات في حالة العافية تُفرز نخبا هي "زبدتها" و"رحيقها"، تتمثّل معنى الرّيادة الحضارية سلوكا إبداعيًّا يتّسم بالأصالة والتّميّز، وتنفر من التبعية والاستهلاك السلبي لمنتجات الآخر.

أمّا في حالة سقمها، تُفرز المجتمعات نخبا هي "زَبَدها" و"أمراضها"، تتمثّل معنى الرّيادة تقليدا للغالب، وتسويقًا للرّداءة الفنية والفكريّة، وتبعيّة نفسيّة وعقليّة، تُجمّل نفسَها بأسماء برّاقة مثل "التّجديد" و"الإبداع"، وهي لا تخرج عن إعادة إنتاج الآخر في نسخ مشوّهة لا لغة لها ولا نكهة مميزة.

 

وكثيرا ما تنقلب إلى مجرّد مقاولين يبنون قواعد فكرية وثقافية للمستعمر، ويعملون بإخلاص على تهشيم كلّ "جميل" و"أصيل" في مجتمعاتنا. ويسعون جاهدين إلى إفراغ الثقافة الوطنية من كلّ مضمون أصيل، وإلى فصل الدّين عن نفسه ومقوّماته، ويُؤَسّسون لقراءات تأويلية لا ضوابط لها، تجعل المسلمَ المعاصرَ تابِعًا لكلّ الأفكار والمقولات الحادثة، لاهِثًا وراءَ إرضاء الآخر حتّى ولو على حساب ثوابته ومقولاته الأساسية، حقلا لكلّ التّجارب المنهجية حتّى تلك التي أظهرت إفلاسَها عند الآخرين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.