وكأني بكارهي الإخوان اتسعت ضحكاتهم وانشرحت صدورهم، كيف لا وأنت لا تجد سلفيةً من (السلفيات) إلا وصدورهم للجميع؛ فهم يقبلون كل الناس، ويحاورون كل المخالفين، بلا تبديع أو تكفير أو تفسيق! حتى فيما بينهم؛ فلا (السلفي الجهادي) يطعن في (المدخلي) ولا (السلفي السروري) يتخوّف ويحذر من (السلفي العلمي)، ولا (الوهابي النجدي) يرى نفسَه على السلفي الشامي. ولا السلفية تطعن في الصوفية، ولا الصوفية تشنّ حرباً على السلفية. والخُطَب يحضرها الجميع للجميع، بلا جلسات تشريح بعد الخطبة ولا مناشير في وسائل التواصل عنها. وامتيازات هؤلاء يسعد بها أولئك، ومشاريع أولئك ينتفع بها أبناء الجميع، فالإسلام دينٌ رحبٌ يجمعنا.
عندما يشتد الألم يصعب على الإنسان البوحُ به، فيئنّ أنيناً يوحي بوجعه؛ وكذا مَن يكتب يهرب للتعريض لأن الوجعَ يُعجزه عن التصريح والله المستعان. فهل نقول: كن سلفياً لتكون معنا.. أو كن صوفياً لنفتح لك باب الأسرار..
ولولا خوفُ السلاطين والملوك والرؤساء والأمراء لكنت تسلّلت إلى قضايا التعيينات والترقيات وبثثتُ بعضاً من صرخات الـمُبعَدين والمنفيّين والمسجونين مكافأةً على فهمهم وعلمهم وشهاداتهم ومنافستهم أذناب الحكام من الحمير. |
وإن طرقْنا أبواب المدارس والمنظمات الثورية التي قامت إثر ثورةِ كرامةٍ ضد نظام اغتصب السلطة له ولعائلته، لوجدنا أننا وقعنا في نحو ذلك في كثير من مؤسساتنا الثورية، تعليميةً كانت أو طبيةً أو إغاثيةً؛ فلون البشرة يلزم أن يوافق لون بشرة المموِّل أو المؤسِّس وبعدها تكون المؤهلات والخبرات. ولم أذكر التشكيلات العسكرية؛ ليس خوفاً من البسطار العسكري أو البدلة البرتقالية أو ختم (مرتد) أو (عميل) أو (متخاذل هارب خلف الحدود) على جبيني تبريراً لتصفيتي على ما جرت العادة؛ بل لأن العسكر يُحتمل منهم ما لا يحتمل من غيرهم بحقّ طالما الروح على الكف والعين في منظار البندقية نحو العدو.
ولولا خوفُ السلاطين والملوك والرؤساء والأمراء لكنت تسلّلت إلى قضايا التعيينات والترقيات وبثثتُ بعضاً من صرخات الـمُبعَدين والمنفيّين والمسجونين مكافأةً على فهمهم وعلمهم وشهاداتهم ومنافستهم أذناب الحكام من الحمير.. وأما في حياتنا الاجتماعية فليست أقل؛ فالزوج لا تنال زوجه عنده الحظوة في البيت الذكوريّ إلا إن كانت أمَةً بمسمّى زوجة، فإن رفعتْ رأسها باعتراضٍ أو تقدّمت بين يدَي جلالة زوجها أعادها إلى زنزانة (كفران العشير) وسقاها مرارة صيدنايا في بيتها..
وفي البيت الأنثويّ -وهو الأكثرُ اليومَ والله المستعان- لن يكون الزوج مرضياً عنه ليرتقي عرش الزوجية السعيد بجانب جلالتها ما لم يسلّم الراية ويبيع الختم ويوقّع دائماً على بياض.. والبنت مع أمّها، والولد مع أبيه ليس أقل من ذلك بكثير. وترى الصديقَين وأحدُهما أقربُ إلى الآخر من أهله وذويه، وما هي إلا ريحُ اختلافٍ في تشجيعِ فريقٍ رياضيٍّ أو فصيلٍ عسكريٍّ أو منشورٍ لأحدهم في الفيس لِتجدَهما وكأنهما رضعَا الخلافَ، وشبَّا على العداوة، ولم يَدُرْ بينهما سلامٌ يوماً.. ولولا أننا موقنون باختلاف البصمات لَتحرَّينا توافُقَها مع مَن نصاحب. الكلُّ يرمي الكلَّ بالحزبية وعدم تقبُّل الآخر، ولكلٍّ منها نصيبٌ؛ فمُقلٌّ ومُكثِرٌ..
وإن كان ما قلتُه إنشاءً عبثياً بالحروف يقفز فوق الجماعات والمؤسسات فلننظر في دوائر القَبول والتأثير لكل جهة من الجهات؛ فالجهة صاحبة الرسالة التي يليق بها العمل لثورةٍ دفعت من أرواح أبنائها مئات الآلاف – والعدّاد لـمّا يقف بعدُ – تُوزَن بعناصر القَبول والتأثير من خارج دائرتها التنظيمية، لأن الجميع يزعم أنه لكل سوريا، لكل الشعب المناضل، فلا تعدّ أخي الإخواني أنصارك ومحبّيك من أبناء التنظيم فحسب، ولا تحسب السلفية أتباعها ممن أخذها جملةً عقيدةً ومنهجاً وفقهاً فقط، ولا تفرح الصوفية بعدد أنصارها في حفل المولد، ولا الاشتراكية بعدد مَن يحضرون في القاعة الصغيرة، ولا العلمانيون بعدد أصابع اليد الواحدة. وإلا كان مطلوباً أن يكون لكل من هذه الجهات (سوريا خاصة به).
كان لنا أن ندّعي مشروع البلد كله، وتحت سقفه لا فوقه نتناقش ونتحاور، بل ونختلف ونتحاجج؛ لذا لست أقول: كن سورياً ولا تكن إخوانياً أو سلفياً أو صوفياً أو اشتراكياً، بل كن سورياً ثم كن ما تشاء. |
تمتلئ الأدبيات العلنية للأحزاب والجماعات والمؤسسات بما يجب أن يكون عليه التعامل مع (الأغيار) ممن هم خارج حدودها، لكن الواقع المرّ يصرخ بتكذيب ذلك سياسياً وعسكرياً وتعليمياً ودعوياً وإنسانياً. فالضيق بالآخر هو الطابع العام الذي تصطبغ به مؤسساتنا الثورية وجماعاتنا الدينية والفكرية عموماً، وليس هذا لأن بيننا دماءً وثاراتٍ على الأرض، بل عدم قَبولنا بعضنا هو ما سفكَ الدماءَ وأزهقَ الأرواح. لن يكون الناسُ لوناً واحداً ببصمةٍ واحدةٍ وصوتٍ واحدٍ، وليس مطلوبٌ أن يكونوا كذلك، ولا المطلوب تمييع الانتماء فلا تبقى هوية دينية أو فكرية أو سياسية، بل يجب أن يكون لكلٍّ هويته لا يتوارى بها ولا يخجل منها؛ لكن المطلوب شرعاً وعقلاً وثورياً أن نعي جيداً أن الوطن يجمعنا، وأنه يجوز أن نختلف برفقٍ وحلمٍ دون نزاع أو قتال (أذلّة على المؤمنين)، ونَلِين بأكتاف بعضٍ ونحن نبني الوطن (لِينُوا بأيدي إخوانكم)؛ لنسدَّ الخللَ، ولا نَذَرَ لشياطين الإنس فُرجةً يدخلون علينا منها.
ليست القبّة التي نقاتل من أجلها هي التنظيمات، ولا المؤسسات والجماعات الدينية والفكرية؛ قبّتنا الجامعة لنا هي سوريا، هي الوطن الذي يجمعنا بطيفه وإن لفظَنا بظلمِنا لحينٍ، فإن آمنّا بذلك وفهمنا أن قَبول الآخر ضرورة وجودية – إذ وجوده ضرورة لوجودي واستمراري – كان لنا أن ندّعي مشروع البلد كله، وتحت سقفه لا فوقه نتناقش ونتحاور، بل ونختلف ونتحاجج؛ لذا لست أقول: كن سورياً ولا تكن إخوانياً أو سلفياً أو صوفياً أو اشتراكياً، بل كن سورياً ثم كن ما تشاء..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.