غير أن منطقة الشرق الأوسط لم تنتقل بهذا الزخم الاقتصادي إلى بنية تحتية مؤسسية ينتج عنها مؤسسات تجارية عملاقة تتجاوز الأجيال، البنية التحتية تعني وسائل وأفكار خلاقة تنقل النشاط التجاري البدائي إلى مؤسسة تتجاوز أزمة التفتت بسبب خلافات الشركاء وتشتت الأموال بموت المؤسسين، يرافق انتقال النشاط التجاري إلى عمل مؤسسي قوانين تضبط هذا الانتقال، كانت الشراكات التجارية في منطقتنا بالكاد تعيش لجيل أو جيلين بالأكثر ثم تتفتت، المؤسسات التجارية العائلية أوفر حظا بقليل، لكن غالبا ما كانت تنتهي إلى التفتت أيضا.
الحديث هنا ليس عن التخلف الاقتصادي فقط، وإنما أيضا عن التخلف السياسي، تقنين العلاقة بين الحاكم والمحكوم وظهور المؤسسات التمثيلية كالبرلمان ومن بعده فلسفة الديمقراطية له علاقة وثيقة بنمو المؤسسات التجارية والصناعية. |
في القرون الوسطى عانى الغرب من معضلة تفكك المؤسسات التجارية أيضا، لكنه وبالمحاولات المتكررة ابتدع فكرة الشركات المساهمة، حيث صارت المؤسسة التجارية شخصية اعتبارية لها استقلالية عن أصحاب رؤوس الأموال المؤسسين، وبهذه الصيغة استطاعت المؤسسات التجارية إدارة ذاتها وتملك الأصول واللجوء إلى القضاء، بينما أصحاب رؤوس الأموال يمتلكون الأسهم فيها، وفي حال الخلاف أو وفاة أحد المساهمين تنتقل الملكية إلى الورثة دون أن تتأثر المؤسسة، حيث يمكن تسييل حصته ببيع الأسهم دون أن يتم تفتيت المؤسسة.
وفي إطار الانتقال المؤسسي تحولت بيوت الاإقراض في الغرب لتصبح بنوكا وتلعب دورا أساسيا في جمع رؤوس الأموال وإدماجها في النشاط الاقتصادي، كما ظهرت فكرة شركات التأمين والتي نجحت في إشاعة قدر كبير من الطمأنينة في البيئة الاقتصادية وشجعت رؤوس الأموال على الانخراط في النشاط الاقتصادي، رافق هذا كله تطور في الجانب القانوني ليواكب الصيغ التجارية المستحدثة، وظهرت القوانين والمحاكم التجارية.
في المنطقة العربية والإسلامية وحتى القرن التاسع عشر ظلت المعاملات التجارية تتم بنفس الصيغة التي كانت عليها في القرن التاسع، أي أنها عانت من جمود تام، فصيغة الشراكات التجارية حتى وقت قريب كانت المضاربة، حيث يشترك أصحاب رؤوس الأموال والعاملون في تجارة معينة ويتم تحديد نسبة الربح بناء على اتفاق مكتوب، وعند حدوث خلاف أو عند وفاة أحد المساهمين تُفض الشراكة ويتم تقاسم الأموال والأصول، وعندها تتفتت الشراكة.
هذا عدا أن الشريعة الإسلامية واضحة في مسألة الميراث وتفرض مبدأ العدالة في تقاسم الثروة بين الأبناء والأقارب، وغالبا ما يكون الأثرياء لديهم أبناء كثر، وبهذا تتفتت الثروة ولا يسمح ذلك ببقاء النشاط التجاري بعد وفاة المؤسس، صحيح أن الشريعة قدمت فكرة القراريط كحل للميراث في النشاط التجاري والأصول غير القابلة للتقاسم، ومبدأ القراريط شبيه بفكرة الأسهم، حيث يتم تقييم النشاط التجاري أو الأصول على أساس قراريط، ولكل مساهم نسبة من القراريط حسب مساهمته، لكن أمام مبدأ التقاسم بين شريحة واسعة من الورثة وعدم الفصل بين المساهمين والمؤسسة، غالبا ما كان يتعرض النشاط التجاري والأصول للتسييل والتفتت، كانت صيغة المضاربة ومبدأ القراريط قاعدة يمكن للمسلمين أن ينتقلوا منها إلى بناء مؤسسات تجارية حديثة، لكنهم لم يفعلوا وظل النشاط الاقتصادي بدائي جدا إلى وقت متأخر.
يُضاف إلى ذلك المحاذير الإسلامية فيما يخص فكرة البنوك وشركات التأمين، وهو ما لم يسمح بتجميع رؤوس الأموال وتسخيرها للأنشطة الاقتصادية الكبرى. لم يظهر التباين بين المنطقة الإسلامية والشرق إجمالا وبين الغرب إلا مع الثورة الصناعية، اختراع الآلة ودخولها في الانتاج الزراعي والصناعي كان ضرورة فرضه نمو المؤسسات التجارية ورغبتها في التوسع، تضاعف الإنتاج في الغرب في ظل وجود بنية تحتية في المؤسسات التجارية والصناعية والتشريعات، وهنا اتجه الغرب للبحث عن الموارد الطبيعية لتغذية ثورتهم الصناعية، وهذا أحد أهم دوافع الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين.
بطبيعة الحال القراءة الاقتصادية وحيدة ليست كافية لتشخيص المشكلة، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار التطور الفكري والجيوبوليتيكي، ولكن الاقتصاد ظل في قلب التحولات نحو الحداثة ولا يمكن إغفاله. |
الحديث هنا ليس عن التخلف الاقتصادي فقط، وإنما أيضا عن التخلف السياسي، تقنين العلاقة بين الحاكم والمحكوم وظهور المؤسسات التمثيلية كالبرلمان ومن بعده فلسفة الديمقراطية له علاقة وثيقة بنمو المؤسسات التجارية والصناعية، فمن جانب وفرت المصانع والأسواق الكبرى مساحة لتجمع الناس وتلاقي مصالحهم، وبهذا ظهور جماعات ضغط ترغب بأن يتم تحديد علاقتها بالحاكم وفيما بينها، فالنموذج القديم حيث للحاكم السلطة الكاملة بمصادرة الأموال وفرض ضرائب اعتباطية وتسخير الأثرياء للأيدي العاملة دون أدنى حقوق لم يعد مقبولا، وهنا تحركت كل جماعة ضغط سواء من الأثرياء أو العمال لتقنين العلاقات، فضغط التجار من أجل تقنين الضرائب وحماية الملكيات الشخصية، بينما تحرك العمال من أجل تقنين الأجور وساعات العمل والحقوق، وهذا ساهم بحد كبير في كتابة الدستور والقوانين المتخصصة، وتم الحد من سلطة الحاكم ومن ثم مهد الطريق نحو التمثيل في الحكم واستواء فلسفة الديمقراطية.
لم يتبن العالم الإسلامي للمفاهيم الغربية في المؤسسات الاقتصادية والتشريعات المتصلة إلا في القرن الثامن عشر، وظهرت البنوك التجارية وتم تبني التشريعات التجارية الحديثة وفتح المحاكم التجارية المتخصصة، لكن للأسف لم تكن هناك مؤسسات تجارية عملاقة تستطيع أن تستفيد من البنية التحتية الاقتصادية المستوردة، وحينها عملت الدول والحكومات على بناء مؤسسات صناعية وتجارية عامة تحت سلطتها، وبدل أن يساهم الانتقال إلى النشاط الاقتصادي المؤسسي في تحجيم سلطة الحاكم وتقنين العلاقة بين المواطن والدولة، زاد من نفوذ الحاكم وسلطته اللامتناهية وأضعف المجتمع.
بطبيعة الحال القراءة الاقتصادية وحيدة ليست كافية لتشخيص المشكلة، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار التطور الفكري والجيوبوليتيكي، ولكن الاقتصاد ظل في قلب التحولات نحو الحداثة ولا يمكن إغفاله.