شعار قسم مدونات

عبد الوهاب المسيري.. المفكر المعماري والعمراني

blogs - old cairo
عُرف عبد الوهاب المسيري المفكر العربي بأطروحاته العميقة في مجال التحليل الشمولي للمشروع الصهيوني، فقد صدرت له عشرات الدراسات عن الحركة الصهيونية، ويعتبر واحدًا من أبرز المفكرين العالميين في هذا المجال. في هذا المقال سأحاول إسقاط الضوء على جانب شديد القيمة، ولكنه غير معروف من حياة هذا المفكر الوطني. هذا الجانب يسرد علاقة المفكر الموسوعي بالعمارة والعمران وقدرته على طرح إطار فكري وتوجه معرفي قادر على إلهام أجيال حالية وقادمة من المعماريين والعمرانيين العرب. خلال بحثي اكتشفت جانباً جديداً أو بالأحرى هدفاً جديداً للمشروع الثقافي للمسيري، وهو الخاص بمفهوم إنتاج المكان ومنطق تولد العلاقات الإنسانية التي تنسج وتتشابك خلاله. 
بدأت رحلتي الفكرية كمعماري وعمراني مع النتاج المنشور للمسيري من خلال استقراء قيمة العملية الإبداعية، وقيمة الإنسان في اللحظة المعاصرة التي يسيطر عليها الغرب ويدفعنا دفعا إلى الانحياز الشديد له ولما ينتجه. ولمزيد من التحديد للقيمة الفكرية المعرفية للمسيري أستعرض ثلاثا من أعماله التي لا تثري فقط الحركة الفكرية النقدية الفلسفية بعمومها، ولكنها بالقطع طارحة لحقبة جديدة في مفاهيم تشكيل هوية المكان وعلاقته بالإنسان العربي الفخور بتاريخه والواعي لحاضره. هذه المفاهيم يمكن رصدها في ثلاث من كتب المسيري الفارقة:

المحطة الأولى: إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد (1993)
طرحت فكرة التحيز في المصطلح والمنهج من جانب الكثير من الباحثين والعلماء، وهذه الفكرة نوقشت من قبل في سياق الحديث عن الهوية والخصوصية. إلا أن أحدًا لم يحاول بشكل منهجي وشامل دراسة قضية التحيز في العلوم وتأسيس علوم جديدة تتعامل مع الإشكاليات الخاصة بالحضارة الإسلامية المعاصرة. ويعد هذا الكتاب محاولة مُفصلة ومُنظمة في هذا الصدد تسعى لاسترجاع البُعد الاجتهادي والإبداعي للمعرفة. إذا أسقطنا هذا الفكر على العمارة نشعر بأهمية طرح المسيري لأن العمارة العربية وقعت بعمق في فخ التقليد وأهملت المشروع النقدي للنتاج المعماري والعمراني الغربي.

تميز فهم المسيري عن الفن والعمارة والعمران بأنه فهم اجتماعي ثقافي، وليس فقط تشكيلي جمالي، وقد بدأ هذا التوجه الاجتماعي الإنساني من سنوات المراهقة. ومن ثم تجاوز فكرة أن العمارة فن اجتماعي وطورها إلى أن العمارة هي تعبير اجتماعي عن الوجود.

المحطة الثانية: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان (2002)
تشكل الفلسفة المادية البنية الفكرية التحتية أو النموذج المعرفي الكامن للعديد من الفلسفات الحديثة: الماركسية والبرجماتية والداروينية، كما أنها تشكّل الإطار المرجعي الكامن لرؤيتنا للتاريخ والتقدم وللعلاقات الدولية. وقد ارتبطت الفلسفة المادية في عقول كثيرين بالعقلانية والتقدم والتسامح. وقد هيمنت هذه الفلسفة على النخب الثقافية والفكرية لزمن ليس بقصير. هذا الكتاب قدم نظرية نقدية لهذه الفلسفة، فحلل نموذجها المعرفي المادي، ودرس تجلياته النظرية والتاريخية المختلفة. فقدم توضيحاً لماهية الفلسفة المادية وسرّ جاذبيتها، ثم بين مواطن قصورها في تفسير ظاهرة الإنسان. وانطلاقاً من هذا التصور حصرت هذه الدراسة أهمّ سمات العقل المادي، كما أوضحت الفرق بين العقل الآداتي والعقل النقدي.

المحطة الثالثة: الإنسان والحضارة (2002)
تتناول دراسات هذا الكتاب إشكالية منهجية وهي ضرورة استخدام النماذج المركبة لتفسير الظواهر الإنسانية والنماذج المركبة هي النماذج التي لا تكتفي بعنصر واحد في تفسير الظواهر، وإنما تأخذ في الاعتبار عناصر عدة منها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل تصل إلى العناصر الحضارية والأبعاد المعرفية، ولأن النموذج التحليلي المركب متعدد الأبعاد والمستويات فإنه يمكنه الإحاطة بمعظم جوانب الظاهرة موضع الدراسة. وإذا حللنا من خلال أطروحة الكتاب، المفهوم العميق للعمارة يتبن لنا مستوى الوعي الذي حققه المسيري للمعماريين والعمرانيين. فالعمارة هي نتاج مادي ولكنه شديد التعقيد والتركيب ومحمل بالصفات والعلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية بالإضافة إلى القيم الجمالية والتشكيلية. في إطار مثل هذا الفهم فان العمارة وهي مرآة للحضارة الإنسانية تتطلب نموذجا مركبا لتفسيرها وفهمها. هذا المنظور لم يكن مطروحا في الثقافة العربية التي طالما نظرت للعمارة كمنتج بنائي جمالي تقني هندسي ولكنه ليس بالقطع منتج حضاري عميق محمل بالإشارات والدلالات.

هذه الكتب الثلاثة تشترك في مفهوم شمولي عام، كان البحث عنه يؤرق أجيالا من المعماريين والعمرانيين في العالم العربي. هذا المفهوم يؤكد على الخصوصية الإنسانية والمكانية والثقافية أهميتها في فهم وتفسير الظواهر والنماذج الإنسانية المركبة والمعقدة. هذا المفهوم أيضا ينقل المبدع، وخاصة في مجال العمارة والعمران، من حالة الاستسلام الى ما هو وارد إليه أو التحيز له أو ضده إلى حالة الفاحص الناقد الواثق فيما يملكه محليا وإقليميا، ومن ثم يجعل مراجعته للطرح الغربي مشروعا ومقبولا.

انشغل المسيري بإنهاء الخلاف المصطنع أحيانا بين الحديث والقديم، وأوضح خطورة الانحياز الكامل إلى ذوق غربي في العمارة والفن. وأعطى نصائح لكيفية إدماج فنون المجتمعات الإسلامية في العمارة الداخلية لبيوتنا وأماكن عملنا.

المسيري والعمارة: علاقة المحب والناقد والمنظر:
تميز فهم المسيري عن الفن والعمارة والعمران بأنه فهم اجتماعي ثقافي، وليس فقط تشكيلي جمالي، وقد بدأ هذا التوجه الاجتماعي الإنساني من سنوات المراهقة. ومن ثم تجاوز فكرة أن العمارة فن اجتماعي وطورها إلى أن العمارة هي تعبير اجتماعي عن الوجود، ومن ثم فإن التصميم للصفوة فقط لا يتنافى مع المفهوم الحقيقي للعمارة، وإنما يخلق فجوة اجتماعية وسقطة في بنية المدينة عندما تنتشر حولها عمارة المهمشين المرفوضين الذي فشل المعماريون والعمرانيون في التعامل مع قضاياهم ومتطلباتهم فخلقوا حزاما قبيحا ينمو سرطانيا ويخنق المدن الكبرى في مصر وخاصة القاهرة والإسكندرية.

كما انشغل المسيري بإنهاء الخلاف المصطنع أحيانا بين الحديث والقديم أو الأصلي والمعاصر، وبصورة خاصة أوضح خطورة الانحياز الكامل إلى ذوق غربي في العمارة والفن. وأعطى المسيري نصائح لكيفية إدماج فنون المجتمعات الإسلامية في العمارة الداخلية لبيوتنا وأماكن عملنا خاصة مع الأثاث البسيط، وأشار إلى أهمية خلق حدائق صغرى حتى في غرف الاستقبال حيث يمكن تزيينها بأواني الزرع النحاسية المطروقة بالزخارف الهندسية أو الخطية، وتزيين الجدران بالخط العربي في لوحة قرآنية أو تشكيلية توظف الحرف واللغة فنيًّا. كما اهتم بوحدات الإضاءة التي تخلق بانعكاساتها ألحانا من الضوء والظل على جدران الفراغات المختلفة فتثري التجربة البصرية للمكان مهما كانت مساحته وبساطته.

قيمة المسيري المعمارية والعمرانية:
الطرح الفكري للمسيري نبه الحركة المعمارية إلى بديل غير مسبوق. لم يعد خيار المعماري ينحصر في توجهين اشتهرا في مصطلحات العمارة والعمران العربي: الأصالة والمعاصرة أو التقليدي والحداثي. رفض المسيري الاستغراق المفرط في الماضي وإعادة إنتاجه بصورة مسطحة ترفض اللحظة المعاصرة بكل آلياتها وملامحها.

الأثر الذي تركه المسيري في الفكر المعماري والعمراني العربي لا يقل عن مساهماته الفلسفية والاجتماعية. بل يضعه على رأس قائمة المفكرين والمبدعين المعاصرين الذين ساهموا في إعادة توجيه البوصلة الفكرية للحركة المعمارية المعاصرة.

كما رفض الاندفاع الكامل إلى حقبة غربية ننحاز إليها انحيازا كاملا ونقبل منها كل ما تطرحه من علاقات وبدائل للحوار بين الإنسان والمكان. ولذا كان طرحه البديل الذي استند على الركيزة الفكرية لكتابه الشمولي "إشكالية التحيز" وهو الطرح الذي يستوعب قيمة الماضي وأثره في تشكيل الهوية والخصوصية الثقافية والشخصية المكانية، ولكنه أيضا يتفهم قدرة المبدع العربي على رفض التحيز للمشروع الغربي والتمعن في تحليله ونقده وإعادة تركيبه بما يجعله مساهما في الرؤية العربية المعاصرة للإنسان والمكان أو بالأحرى العمارة والعمران.

إن الأثر الذي تركه المسيري في الفكر المعماري والعمراني العربي لا يقل أبداً عن مساهماته الفلسفية والاجتماعية وموسوعاته. بل يضعه يقينا على رأس قائمة المفكرين والمبدعين المعاصرين الذين ساهموا في إعادة توجيه البوصلة الفكرية للحركة المعمارية المعاصرة في مصر والعالم العربي. إن الأطروحات النقدية التي صاغها المسيري بجانب ما طرحه مفكرون مثل محمد أركون والمهدي منجره، رسمت إطارا فكريا لمدرسة إبداعية معمارية عمرانية تعتز بماضيها وتراثها العربي والإسلامي، وتدرك وترغب في استيعاب قيمة الفكر الغربي المعاصر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.